أذكر لقاءً لي على قناة “البي بي سي” الناطقة بالعربية عام 2013 حين قامت الدول المشاركة بالعدوان على سوريا بتجميع عدد من الضباط الفارين من الجيش، بغية تشكيل مجلس عسكري منهم. ومن يتذكر مدى خطورة تلك الأيام الصعبة على سوريا حيث كان الإرهاب المدعوم خارجياً يضرب في كل مكان حتى العاصمة دمشق، يدرك دقة الموقف، فكان جوابي آنذاك “بأن هذه الدول تعرف كيف تدعم الإرهاب وتعرف كيف تجمع بضع فلول المنشقين لتصنع منهم كيانات سياسية، لكنها لا تدرك ولا تحسب أبداً ماذا يعني اليوم التالي.”
ليس اغتيال قائد حركة حماس الشهيد يحيى السنوار هو الأول ولا اغتيال الأمين العام لحزب الله الشهيد حسن نصر الله، قد أتى قبله، بل ان كل الاغتيالات هي أحد الأسلحة بيد العدوان وهذا صحيح ونقر بأهميته الكبيرة وان العدو بعد إنجازه اغتيال السيد نصر الله، والسنوار، لم يزهو فقط، بل واستطاع في الحالتين تسديد ضربات بالغة الإيلام في بنية المجتمع المقاوم والداعم لها في الحالتين، الأمر الذي تم تفكيك خطره وأثره بعد الضربة الإيرانية على الكيان وسلسلة العمليات البطولية الناجحة للمقاومة في الجنوب وفي عمق الكيان.
وإذا أخذنا القاعدة المتفق على أهميتها للمفكر الألماني كارل فون كلاوزفيتز بأن الحرب هي امتداد السياسة بوسائل أخرى، وإن الحرب في حد ذاتها لا تعلق العلاقات السياسية ولا تصيرها إلى شيء مختلف، بل هي تستمر بغض النظر عن الوسائل المستخدمة، فمن الطبيعي أن يتركز النقاش على وسيلة الاغتيالات بذاتها وإلى أي مدى ستبقى قادرة على الإنجاز وما هو الهدف السياسي من خلف ذلك، ثم والنقطة الأكثر أهمية برأيي هي تعريف الجبهات السياسية المتقابلة في هذه الحرب وهنا لب القضية.
لا شك بأننا قبل طوفان الأقصى ثم جبهات المساندة، وأهمها لبنان، كنا أمام مسار سياسي واضح المعالم إلى حد كبير يقول وبعد إنجاز الربيع العربي لإحراق أهم الدول العربية سياسيا واقتصاديا واهمها العراق وسوريا، بتنا أمام مشروع انتقال المنطقة لمرحلة التطبيع الكامل مع “إسرائيل”، وقد كان ذلك المشروع آخذاً في الاتضاح بمعالمه المتمثلة بتشكيل منظومة شرق أوسط تتفق فيه الكتل الوازنة على ما سمي التطبيع وهو حقيقة أوسع من ذلك بكثير لأنه كان مشروعا أوسع من كامب ديفيد السادات، بل ويهدف إلى تكامل المصالح بين الدول الوازنة و”إسرائيل”، وكانت العقبة بالطبع أمام كل ذلك هي إيران والمقاومة، وهنا يجب الاستنتاج بأن طوفان الأقصى وجبهات المساندة منذ سنة وأكثر قد نسفوا هذا المشروع وأما أصحاب نظرية المؤامرة بين السنوار و”إسرائيل” من أجل منحها الذريعة لتدمير غزة، فيكفي معرفة أنهم ذاتهم من كانوا يصفون القائلين بنظرية المؤامرة عن تأسيس “إسرائيل” ودعم الغرب لها، بأنهم أصحاب فكر عقائدي وخشبي وان الأوان قد حان لنمط تفكير آخر.
ما الذي تغير؟
اعتقد بأن رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو قد استطاع إقناع دوائر القرار في الدولة العميقة الأمريكية وليس الإدارة فحسب، إبان زيارته التاريخية قبل الأخيرة وتصفيق الكونغرس له، بأن يختصر مرحلة التطبيع ذاتها وينتقل إلى مرحلة (“إسرائيل” أمريكا العظمى) بالقوة الغاشمة العسكرية دون المرور بمرحلة التطبيع التي كان من شأنها زج طاقات الشرق الأوسط كله رضائياً باتجاه ذات الهدف، ولكن سيناريو التخلص من العقبات وأهمها المقاومة كما اسلفنا لم يكن ناضجاً.
اذا هنا اختار نتنياهو بدعم مطلق غير مسبوق حتى أمريكيا استعمال اقصى صنوف القوة الغاشمة حربياً دون الحاجة للمرور بالمعبر الاقتصادي حتى للوصول لهذا الهدف لأنه أصلا لا يعتبر تلك الدول المرشحة للتطبيع شركاء له بل هي كانت لتشكل مرحلة ربط كامل سرعان ما تهيمن “إسرائيل” على أصول مقدراتها بحكم أنها صاحبة البيت في المشروع وهم ضيوف، وما النزاعات التفصيلية التي سادت حول تسليم طائرات مقاتلة متطورة او مفاعلات نووية أو حتى الباتريوت في مرحلة حساسة لدول الخليج، إلا أدلة على عدم أصالة مبدأ الشراكة معهم.
نتنياهو استطاع الحصول على الإذن والدعم لاستخدام حتى سلاح البيجر واللاسلكي ضد حزب الله والذي يفترض أنه أكثر تحريماً أمريكيًا حتى من أسلحة الدمار الشامل الكيماوية وغيرها، لأنه ببساطة ليس سلاح ويحرم تحويله إلى سلاح، بدليل أن جميع الاتهامات بأن الفيروسات او اللقاحات للفيروسات مثل كوفيد، منتشرة في أوساط الرأي لكن لم يقدم أحد على الاعتراف بها، أما إسرائيل فقد حولت البيجر إلى سلاح وجاهرت به لأن ذلك كان ضروريا في إطار توجيه أكبر ضربة قاصمة للمقاومة ولكن ينبغي أن تكون قاضية وإلا فالعواقب مرشحة على انقلاب المشهد بالكامل.
جبهات الحرب:
لا يمكن للولايات المتحدة الأميركية أن تسمح بكل هذا المجال من الانخراط في الحرب إلى جانب “إسرائيل” من أجل أن تصل إلى مجرد عودة إلى وضع سابق، وبالتالي فإن الحديث عن تغيير خرائط الشرق الأوسط، لهو توجه جدي وحقيقي من قبل الثنائي الأمريكي “الإسرائيلي”، وما صمت القبور العالمي اتجاه ما يحدث من مجازر إلا بسبب التهديد الجدي لهم بعدم السماح لهم بالتدخل وأن دور الخادم المساعد هو الوحيد المعروض على لاعب كالفرنسي مثلا في الشأن اللبناني او غيره.
فهل تبقى باقي دول الطوق او حتى الخليج ومصر، بمنأى عن تغيير الخرائط، بل المسح الجيوسياسي لأنظمتها جميعًا إذا ما قيض لنتنياهو تحقيق نصر حقيقي على جبهات المقاومة في لبنان وفلسطين؟
و هل تشفع الحيادية دونا عن المساندة، أمام جبروت مشروع يخطئ البعض بأن حدوده بين الفرات والنيل، كما يتوهمون بأنه موجه ضد العرب او المسلمين، في وقت تؤكد الدراسات الرصينة، ارتباط الأمر بإعادة هيكلة الثروة في العالم كله ومنع الصين قبل روسيا من مشروعهما لتحقيق التوازن العالمي من خلال التعددية القطبية، وبسط السيطرة الكاملة وليس التطبيع أبدا مع محيط ممتد بين غرب أفريقيا وأذربيجان، مع أدوار فاعلة لكيانات تتحضر في إطار تحليل الدول الكبيرة مثل ايران وتركيا والسعودية ومصر، وإحلال دويلات محكومة “إسرائيليا”، وتمنع حتى مجرد اللعب في الوقت الضائع الذي كانت تمارسه بعض الدول وتتحضر لتعظيمه في إطار مجموعة البريكس او الاوبك بلس بعكس المشيئة الأمريكية؟!
إنها “إسرائيل” امريكا العظمى، النتيجة الحتمية المطلوبة بنتيجة هزيمة المقاومة وليس التحييد ولا التسويات وأما حلم بقاء الكيانات الحالية تحت عناوين يعززها ضعف الإيمان بالقدرة على الصمود وسرعة التخلي، فلن يكون إلا اكثر كلفة وفداحة، وأما عكس كل ذلك وهو الساعة التي لا ريب آتية وفق كل حسابات الإيمان والتجربة والتضحية والقدرة، فهو فشل كل تلك الهجمة والتي ستفضي حتما إلى ارتدادها على أصحابها، ومن هنا فلا تصدقوا أن الاتصالات المكوكية بين الدول المعنية، خالية من هذا المعنى لأن إدراك أكثر الدول التي كانت تقف في دور التطبيع، يتعاظم للخطر الصهيوني القادم في حال انتصاره، رغم حرصهم على عدم إعلان ذلك، فما بالكم بالمؤسسين الرئيسيين للفداء والمقاومة.
طارق الأحمد