علمتني الحياة

علمتني الحياة

علمتني الحياة وهي تعلّم كل واحد منا كل ثانية – أموراً عزيزة على قلبي لدرجة أنه يصعب علي الاحتفاظ بها لنفسي.

علمتني الحياة أن أبتعد عن الدروب المطروقة الواسعة. فالحياة هي حلبة صراع – صراع وعي وقوة. فالقوة والوعي نجدهما عند الخاصة لا عند العامة. فالدروب المطروقة مليئة بالشوك المؤذي والحجارة والحفر والكذب، أما الدروب الضيقة فهي أوسع أفقاً، وأبعد مدى. تأكد أن كل ما يقوله الناس كذب بكذب، أي لا يعبّر عن الواقع بشكل دقيق وموضوعي. وتعلم فضيلة عدم تصديق الناس. فالحياة لها قوانينها ونواميسها، وغالباً ما تجد أن الناس يقصدون الغريب والناشز والاستثنائي والمفاجئ. الناس بلاء في أحاديثهم وأحكامهم وأعمالهم. وطوبى للرجل الذي يخلق دنيا لنفسه.

 تذكر أنك واحد من الناس الذين يتصرفون عن مصلحة (وكثيرا ما تكون جزئية أو غامضة أو طويلة الأمد) والذين ينطقون بالكذب، أي بعدم الدقة الموضوعية عن قصد حيناً وحيناً عن غير قصد. تذكر أن تنطق بالصدق كل الصدق وأن تعمل الأفضل وتذكر أن سلاح الضعيف هو الكذب دائماً، وسلاح الناجح هو الإتقان على الإطلاق.

علمتني الحياة أن الصراع هو دائماً بين خيرين في أكثر الأحيان. فالديمقراطية التي يتغنّى بها الجميع (وطبعا عن بلاهة وتفاهة) هي خير مثال على ذلك. فالانتصار في المعركة الديمقراطية هو طبعا لأحد أثنين. وطالما أن التنافس قائم بينهما، فمن المنطقي أن تكون لكل واحد إمكانية الفوز. إذن، فالاثنان يمثلان الخير. وهذا المبدأ له شأن خطير للغاية في المجال الفلسفي، ويهمني منه هنا الأمر السلوكي. إن الحماسة لطرف معين تبدو غير منطقية، والأجدر أن يلزم الإنسان الصمت أو السكون، وأن يبتعد عن التفكير بمنطق الربح والخسارة. وعليه، فالتقدم في الحياة يكون في اختيار خير أفضل وأعظم من خير تجده أدنى. فالتسعة جيدة وممتازة، ولكنها في مطلق الأحوال أدنى من العشرة. إن الصراع قائم بين خيرين وبين طائفتين كل واحدة منهما تدعي بأنها تناصر الخير الأعظم. إعلم يا صاحبي، أن العامة متخلفة دائماً بالوعي عن الخاصة (أي عن فئة من الناس مميزة واعية، لا ضير إن أطلقنا عليها اسم الخاصة). ثمة دائماً فئة متقدمة بالوعي. كن منها واعلم أن للوعي طرقه وأساليبه. ورغم ذلك، يبقى خيار العامة خيراً، فلا تنزعج كثيراً أن لا توافق العامة على رأيك.

علمتني الحياة أن أكون بالتالي كثير اللامبالاة بالنسبة لأشياء كثيرة وكثيرة قد تبدو للبعض في غاية الأهمية. ففي الواقع، إن الأمور المهمة في الحياة قليلة للغاية كما قال ابيقوروس، المخ الإنساني الرهيب.

علمتني الحياة أن الصبر والمثابرة والمداومة والمتابعة والملاحقة هي زيوت التقدم والفلاح والفوز. وتأخذ هذه الفضائل قيمتها كلما بعدت الغايات وسمت الأهداف وتعقدت الظروف.


علمتني الحياة أن القوة هي أساس الصراع وأن وقود النضال هو الوعي والمصلحة الخاصة (أو العامة). وقد تلبس المصلحة العامة لبوس الخاصة. وقد تكون المصلحة العامة مجموع مصالح فردية خاصة. إن الفائدة الذاتية والمصلحة الخاصة والمنفعة الفردية، كل ذلك هو أساس العمل الإنساني والمعرفة الإنسانية. وكل فلسفة لا تعتمد المصلحة أساساً لها هي فلسفة خيالية أو عوجاء أو عرجاء. وتحية إلى المتنورين الذين قالوا بذلك أمثال ابيقوروس وبنثام وروشفوكو وغيرهم.

علمتني الحياة أن لها نواميس لا يمكن تجاهلها ولا القفز فوقها. وكل ما يقال عن أعاجيب هو حديث أساطير وخرافات يصلح للعجائز الذين ضرب بهم الخرف أو للأولاد الذين يعيشون في عالم الخيال الذي لا يقيم وزناً للعقل. إن الحياة الإنسانية يحكمها العقل والوعي وكل ما عدا ذلك هراء بهراء.

علمتني الحياة أن أكون واقعياً مادياً، أنانياً، ماقتاً للضيافة، متشبثاً بالعقل والمنطق، معتبراَ أن الفن وردة تزين العمر؛ ولكن العقل والوعي هما مادة الحياة نفسها. تعلمت أن الوقت هو أثمن ما في الوجود وأن العمر هو كلمة أخرى لكلمة وقت. فالحياة إن قصرت أو طالت  هي مسألة وقت.

علمتني الحياة أن كل شيء في النهاية يسير نحو الهاوية وأن الإنسان بضعفه ومحدودية دماغه سوف يصطدم باللاشيء، بالموت وبالفراغ. أنا مجرد كائن ساعدته الظروف على البقاء حياً لفترة من الوقت. ولكني مع كل البشر سوف نفنى وسوف يفنى الكوكب الذي يضج بأمانينا وأحلامنا وبشتى المخلوقات، وسوف تتغير الكواكب بعكس ما كان يظن أفلاطون وأرسطو، وسوف يتطور الكون وقد يفرّخ آلاف الكواكب الشبيهة بالأرض، وقد لا تتكرر تجربة الأرض في الكون على الإطلاق. ولكن ما نفع كل ذلك؟ لا شيء يبقى. يبقى أن نعيش ونعمل ونتبع النواميس الاجتماعية رافضين كل مطلق ميتافيزيقي لأنه يجلب من الغم أكثر مما يجلب من الهناء.

علمتني الحياة أن لا أنتظر شيئاً من الآخرين، بل أحاول الاكتفاء ذاتياً. وعلمتني قبل كل شيء أن أرسم وجهة سير لحياتي، وطريقة عيش لأيامي، وفلسفة لا تتناقض مع الواقع الإنساني مبنية على المادة والمصلحة والواقعية مبتعدة كل البعد عن الخيال.

علمتني الحياة أن اللهو حاجة يومية عند الإنسان. فمن الواجب أن ينظم المرء أوقات فراغه ووسائل لهوه ويتعلم الكثير من الهوايات. فالشخصية الانسانية تزداد غنى وتجربة مع كل هواية جديدة. وأنا سعيد جدا لأنني كثير الهوايات وما ندمت أبداً على الأوقات الكثيرة التي هدرتها في البريدج والشطرنج والرسم والخط والموسيقى واللغات لأنها جلبت لي الفرح الداخلي في حينه، ولأنها علمتني هواية تكون سلاحاً لي في الكثير من المواضع.

علمتني الحياة حب الرفض وهواية النقد لأن الرفض دليل وعي واستشراف، والنقد دليل معرفة ورؤية بعيدة. ما أتفه الحياة إن كانت على وتيرة واحدة.

علمتني الحياة أن أجمل الأدب هو الأدب الأتوبيوغرافي، وأعظم الفلسفة هي الفلسفة المبنية على الواقع والمادة والعقل والمنطق، وأن أجمل الفن هو الفن الذي أستطيع أن أمارسه، وأكبر الحب هو الحب الأوحد الذي كلما توغلت فيه تفجر بشكل أكبر وأوسع وأبعد.

 علمتني الحياة أن أربي أولادي على مبادئي وأن أبشر بمبادئي مبتعداً عن الوعظ لأني أكره الخطابة رغم كوني خطيباً وأكره الشعر رغم كوني شاعراً.

علمتني الحياة أن أحبها بجنون حتى الموت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *