الديانة الإبراهيمية والهيمنة الروحية
من ناحية أخرى تدرك إسرائيل أن الهيمنة الاقتصادية رغم أهميتها لن تستمر طويلا وتكتمل بدون تغيير الموروث الثقافي المعادي لوجود الكيان الصهيوني والتي احدى اهم روافده هو المعتقد الديني. إذا تابعنا السياسة الغربية الأميركية والأوروبية تحت عناوين محاربة الإرهاب والعنف ودعم “حقوق الأنسان”، فهي تسعى بشكل ممنهج الى تغيير مفاهيم الإسلام الحالي التي تدعو بنظرهم الى العنف وتكرس معاداة اليهود ولا تعترف بحق ’ الشعب اليهودي المختار ‘في الأرض المقدسة.
بالإضافة الى الضغط الأميركي والأوروبي والصهيوني لتغيير أو “تطوير” المناهج الدراسية في المدارس وحذف آية أو إشارة ضد اليهود في الكتب الدينية والتاريخية وذلك عبر القنوات الحكومية الرسمية ومنظمات الأمم المتحدة كاليونيسيف والمنظمات الغير-حكومية (NGOs) والتمويل الموجه (7)، فهناك حملة كبيرة من كتاب وباحثين معروفين وصفحات مشبوهة على مواقع التوصل لإزالة القدسية عن المسجد الأقصى في القدس. تبدأ الحملة أو تستغل تنوع الآراء بقصة الإسراء والمعراج في القرآن التي تقول عن قصة الإسراء: “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ” [الإسراء: 1]، وتقول عن المعراج: ” وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) [النجم: 13-18]. بعض الفقهاء القلائل يرون ان المعراج الى المسجد الأقصى كان بروح الرسول دون جسده بينما الأكثرية الساحقة من رجال الدين يرون انه عرج روحا وجسدا معا الى القدس. تبقى هذه الأمور في علم الغيبيات ولا يمكن إخضاعها للعقل والمنطق والقدرات البشرية ولكن البعض يبني عليها لأغراض مشبوهة كالباحث المصري يوسف زيدان وباحثين آخرين ومشايخ ليقولوا إن المقصود في الآية بالمسجد الأقصى ليس المسجد الحالي في القدس بل مسجد آخر، إما في مدينة الطائف أو مدينة الجعرانة بين مكة والمدينة لان المسجد الأقصى في القدس لم يكن موجودا في وقت الرسول وبناه الخليفة عبد الملك بن مروان الأموي (8). بغض النظر عن هذا الجدل الذي نتركه لعلم الأثار لإثبات أو إنكار وجود معبد في مكان المسجد الأقصى، فالغاية من الترويج لهذه الطرح واضحة وهي التشكيك أو إلغاء المسجد الأقصى كثاني مسجد بعد المسجد الحرام في مكة وكأولى القبلتين وثالث الحرمين، وبذلك إزالة أي إيمان ديني يربط المسلمين بالقدس وفك الارتباط الديني الذي يحفز أو ينمي الشعور القومي بالانتماء للأرض في فلسطين والعمل على استعادة الحقوق المغتصبة.
لفك الارتباط الديني بالأرض تسعى الديانة الجديدة أيضا الى جعل الإسلام يقبل أو يعترف بان فلسطين هي “الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ” لبني إسرائيل أي لليهود. بناء على ذلك يجب تفسير الآيات الكثيرة التي تتحدث عن بني إسرائيل والأرض المقدسة في القرآن على ما يتناسب مع هذه الطرح. نذكر من هذه الآيات:
“وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ. يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ”. (المائدة: 20-21)
“وأورثنا القوم الذين كانوا يُستضعفون مشارقَ الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحُسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون”. (الأعراف، 137)
“وَنُرِيد أَنْ نَمُنَّ عَلَى الذين اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنجْعَلَهمُ الوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لهُم فِي الأرض وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وجنودَهمَا مِنْهُمْ مَا كانوا يحْذَرونَ”. (القصص 5، 6)
“ونمكن لهم في الأرض فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز، ومقام كريم، كذلك وأورثناها بني إسرائيل”. (الشعراء: 57-59)
“وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لفيفا. (الإسراء: 104)
معظم الفقهاء المسلمين يعتبرون ان بني إسرائيل المذكورين في القرآن هم سلالة نبي الله إسرائيل (يعقوب)، واليهود هم من سلالة يهوذا أحد أبناء إسرائيل (يعقوب)”(9) ولذلك فاليهود لا يمثلون كل بني إسرائيل. كذلك ما زال الفقهاء يجمعون ورغم التأويلات والتفسيرات المختلفة لهذه الآيات، على رفض التفسير الحرفي للآيات وبالتالي رفض الوعد الإلهي لـ”بني إسرائيل” في أرض كنعان. الدكتور معتز الجعبري يؤكد في تفسيره على “ضرورة النظر في القرآن الكريم بشكل كلّي، وربط الآيات بعضها ببعض دون التوقف التفصيلي عند آحادها” وبناء على ذلك يستخلص من سورة البقرة “شروط استخلاف الله لأمة من الأمم في الأرض، والقوانين الإلهية التي تحكم ذلك، ومن تلك القوانين يتبين بشكل قطعي أن الله لا يحابي أمة ولا ينحاز إلى شعب”. بعد ذلك يفسر الجعبري معنى وراثة الأرض في القرآن فيقول إنها “تخليص لها (الأرض) من رجس كل طاغوت يحول بين الناس وبين معرفة الله وتوحيده، وإخراج الناس من ظلمات الشرك ودنسه إلى نور الله، … ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى؛ قال تعالى: “وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ” (سورة الأنبياء: 105-107). الجعبري يلخص بعد ذلك الفرق بين نظرة المسلمين ونظرة اليهود لوراثة الأرض بانه الفرق “بين رؤية بصيرة للوجود ورؤية ذاتيَّة مظلمة” كما يقول محمد علي آل عمر في كتابه “عقيدة اليهود في الوعد بفلسطين -عرض ونقد”(10).
رغم شبه الإجماع اليوم بين المسلمين على رفض التفسير الحرفي لتوريث الله للأرض المقدسة لبني إسرائيل، فان المستقبل قد يخبئ مخططات ’ إبراهيمية ‘معاكسة. حتى الآن لم يتبن أي من الباحثين المعروفين في علم الأديان أي تفسير أو تأويل للآيات المذكورة آنفا بشكل بتناسب مع المشروع الإبراهيمي التطبيعي ولكن بعض صفحات التواصل المختصة والبرامج التلفزيونية تتطرق اليه من وقت لآخر وتحاول مثلا تفسير آية 21 من سورة المائدة التي يقول فيها موسى لبني إسرائيل “ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ”. الجدير بالذكر ان المفسرون الأوائل في العهد العباسي واهمهم المؤرخ الإمام محمد بن جرير الطبري (839-923م) وضح ماذا تشمل هذه الأرض المقدسة في كتابه “تفسير الطبري” فيقول: “وأولى الأقوال عندي بالصواب، أن يقال هي الأرض المقدسة، كما قال نبي الله تعالى موسى (ص) لان القول في ذلك بانها ارضً دون ارضٍ لا تدرك حقيقته الا بالخبر، ولا خبر بذلك يجوز قطع الشهادة به، غير انها لن تخرُجَ من ان تكون من الأرض التي بين الفرات وعريش مصر، لأجماع جميع اهل التأويل والسير والعلماء بالأخبار على ذلك”(11). هذا تفسير من شخصية إسلامية تاريخية مرموقة بان الأرض المقدسة هي بين الفرات وعريش مصر وقد يستعمله “الإبراهيميون” للوصول الى قواسم دينية مشتركة تعترف بان فلسطين هي ارض الميعاد المقدسة لليهود. الجدير بالذكر أن فك ارتباط الإيمان الإسلامي بالمسجد الأقصى سيسهل أو سيمهد للاعتراف الديني بحق اليهود بأرض فلسطين.
الحرب على غزة
لن أدخل في الأهداف الاقتصادية من الحرب للسيطرة على غزة لموقعها البحري كنقطة وصل بين المشرق السوراقي ومصر والجزيرة العربية ولشواطئها الغنية بالغاز وسأكتفي بألقاء الضوء على الأهداف الثقافية والدينية من هذه الحرب. ان ’ الإسلام الجهادي ‘المشرقي السوراقي الذي مركزه القدس ودمشق وكربلاء والمتمثل سياسيا بحركة حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله ودول محور المقاومة يشكل عائقا ثقافيا تطبيعيا أمام إسرائيل فمفهوم الجهاد في سبيل الحق والدفاع عن المقدسات واهمها القدس والمسجد الأقصى ورفض الاحتلال لن يعطي الأمان لمغتصب الأرض وسيكون عرضة لانتفاضات شعبية متى سنحت الفرصة ومهما تفعّل التعاون الاقتصادي الإقليمي. بعد نفاذ الدور المرسوم ’ للإسلام التكفيري ‘الوهابي للتقسيم والتطهير والفرز الطائفي العرقي في العراق والشام، يتم التخطيط اليوم ’ للإسلام الحيادي’ الغير فعال (passive) أو الغير مكترث لاي قضية ظلم واستعباد وقهر قد تحصل لشعوبه عامة وخاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. هذا ’ الإسلام الحيادي ‘الخليجي الذي تدعمه وتخطط له السعودية والإمارات لا يتلقى الدعم من إسلام الأزهر المصري التقليدي لحد الآن، ولكنه يستغل حاجة الإسلام الى التجدد والقراءة الجديدة التي تتناسب مع العصر في عدة مسائل حياتية (وخاصة فيما ورد بالسيرة النبوية والأحاديث)، ليدعو الى التحديث والتغيير علنا، ولكنه ضمنا يخدم في الكثير من طروحاته أغراض سياسية استعمارية.
هذه “الديانة الإبراهيمية” ما هي الا مخطط تآمري بتطلع إلى مستقبل انهزامي أكثر استدامة وأكثر استقرارا، يقوم على جمع الأديان السّماويّة في جهة واحدة تعمل معًا على خدمة المصالح الاستعمارية الصهيونية (6) بقالب عصري ’ ناعم‘، ظاهره سلام ومحبة وأخوة، وباطنه سيطرة وتبعية وعبودية. المشروع يحمل في طياته بعدا دينيا وبعدا سياسيا واقتصاديا لكن كلها تصب في هدف واحد وهو الهيمنة الثقافية الروحية الصهيونية باعتبار اليهود هم أصحاب الحق في فلسطين، والهيمنة الاقتصادية المادية على مواردنا من خلال ربطها بإسرائيل وبذلك شل قدراتنا كأمة سوراقية مشرقية وعالم عربي.
تورنتو كندا
المصادر:
- أين اختفت آثار الأنبياء – خزعل الماجدي، Youtube.com
- الابراهيمية في السياقات الدينية والإستخدامات السياسية – د. عبدالحق دحمان
- الديانات الابراهيمية من الإختلاف الى الإئتلاف – رضوان السيد
- الديانة الابراهيمية وصفقة القرن – هبة جمال الدين
- أوراق إستراتيجية » مشروع بيريز يكشف ما وراء كواليس الأحداث الراهنة – إيهاب شوقي
- “الدّيانة الإبراهيميّة”؛ لعبة التّنين القديمة لتمويه هويّة الأرض – د. زينب الطحّان
- استاذة باحثة تكشف معطيات عن الاختراق الصهـ.يوني للعالم العربي والاسلامي.. هل فات الآوان؟
- يوسف زيدان يكشف : المسجد الأقصى لا يوجد في فلسطين، بل في هذا الموقع
9. إسرائيل فى القرآن الكريم – المصري اليوم، فوزية العشماوي
10. كيف أبطل القرآن مزاعم اليهود بأحقيتهم بأرض كنعان؟، معتز الجعبري