دم ودمع، وعزيمة لا تموت. مشاهدات مباشرة من طبيب شرعي

كان ذلك بعد ظهر الثلاثاء الماضي المشؤوم عندما دوت الانفجارات في مناطق عديدة من لبنان وطالت كثيرين في بيوتهم ومؤسساتهم، ومن موقعي كطبيب شرعي توجب على ان أكون البي واجبي الطبي وشاهدا على الصراخ والأنين، ودماء المصابين في أروقة المستشفيات، أجساد مشلعة، ممزقة الأطراف، عجقة أطباء وممرضين ومصابين وأهل مفجوعين، هذه هي صورة غرف الطوارئ في مستشفيات بيروت وضواحيها. وامتدت المأساة لتشمل الجنوب اللبناني والبقاع.

تدخل غرفة الطوارئ، وكأنك تنتقل إلى عالم آخر مختلف، خلية نحل طبية، رغم كل ما تعانيه مستشفياتنا وقطاعاتنا الصحية من مشاكل وضغوطات منذ سنوات عديدة بدأت مع جائحة الكورونا ولحقها الانهيار الاقتصادي الذي ضرب البلاد والعباد. عشرات المئات من المصابين بتفجيرات تبدو غامضة للغاية جروح وحروق بليغة، ثاقبة، قاطعة، مدمرة بشكل غير معهود لي كطبيب شرعي وبخبرتي الطويلة.

تبين لي ان الإصابات قسمت مكانيا إلى ثلاثة:

  1. إصابات في البطن وخصوصاً الخاصرة.
  2. إصابات مشتركة بين البطن واليدين، خصوصاً الأصابع.
  3. إصابات مشتركة بين اليدين والرأس، خصوصاً الوجه والعينين.

وما يلفت الانتباه أيضا، هو فداحة هذه الإصابات، ومفاعيلها الوخيمة، من جروح ثاقبة للبطن، أو بتر جزئي، أو كامل للأصابع، أو عمى جزئي، أو كامل على العين أو العينين ناهيك عن إصابات الوجه والرأس والرقبة وغيرها الكثير.

هنا كانت تتوالى الإخبار بأن السبب يعود إلى انفجار بطاريات أجهزة تلقي لاسلكية (بايجر)، وفي وقت موحد، عند كل حامليه.

وكان التساؤل كيف يمكن لتفجير البطاريات أن يشكّل نمطية موحدة في كل الإصابات التي شاهدناها؟

هي نمطية واضحة للعيان والخبير. صحيح ان الاصابات مختلفة حسب وضعية الجهاز المنفجر، مقارنة مع جسم الانسان المصاب، ولكنها كلها تلتقي بشكل واضح، بفداحة الإصابة وعمقها وقدرتها التدميرية.

بكلمات بسيطة مختلفة، نلاحظ من الكشف الطبي أن فداحة الإصابات، وقوتها ومفعولها الثاقب المدمر، تتخطى بكثير مفاعيل انفجار عشوائي لبطارية الجهاز بحد نفسها.

هذا التناسب والتناسق، والنمطية الموحدة، في الإصابات الجسيمة الجسدية، يدل بالتأكيد، على وجود شحنة ناسفة متفجرة، ذات وزن ثابت موحد، في كل الأجهزة.

صحيح ان ما نقلناه هو مشاهدات مباشرة ولكن ذلك كله يبقى في إطار التحليلات، التي تنتظر ان تنجلي في تحقيق دقيق وعلمي ينتظره الجميع اما الأن فالشأن الأهم بات إنقاذ ومساعدة أكبر عدد ممكن من المصابين بالتفجير، الذين يعانون ويئنّون بصمت لا مثيل له، وبصمت عميق، لا تراهم يشتكون من جور الزمان ولا يعبرون عن حزنهم لفقدانهم لبعض حواسهم ولقدرات أو أعضاء من الجسد، بل تراهم يرفعون لك أصبعين “شارة النصر”، مما تبقى لهم من أكفهم المباركة، زارعين فينا الأمل بالنصر المبين والرجاء والصبر… وهي عزيمة لا تموت!