مجتمعاتُنا الخاسر الأكبر!

مجتمعاتُنا الخاسر الأكبر!

قيل الكثير في أسباب الفوز الكبير للإسلاميين، في الانتخابات البرلمانية الأردنية. أول ما قيل إن لا مبالاة الأردنيين المنبثقة من عدم ثقتهم بأن مخرجات العملية الانتخابية ستُحدث انعطافة فارقة، هي السبب. فقد بدا الأردنيون يوم الانتخابات غير معنيين بها، إذ أدار ثلثاهم وأزيد ظهورهم لصناديق الاقتراع، مما سهَّل حصول الاسلاميين على 32 مقعدًا نيابيًّا. واستحضر آخرون قدرات الاسلاميين على الحشد والتحشيد، وامتدادهم الشعبي، حتى لو كانت أساساته مبنية على العواطف، مع أن الدول لا تُبنى بالعواطف والمشاعر.

رأي آخر ربط تقدم الاسلاميين في الانتخابات بتراجع تأثير الأحزاب التاريخية، وبشكل خاص اليسارية والقومية. في السياق ذاته، غمز أصحاب هذا الرأي ولمزوا ما يُعرف في الأردن بأحزاب الأنابيب “المُهَنْدَسَة”، على أرضية تصرفات بعض قيادييها المقربين من السلطة الحاكمة والتسجيلات الصوتية المسربة لهم. فهناك من يرى أن أعدادًا من الناخبين صوتوا للإسلاميين ليس حُبًّا بهم، ولكن نكاية بأحزاب السلطة. وليس يفوتنا إيراد رأي آخر مختلف، ينطلق من أن فوز الإسلاميين أقل من التضخيم والتهويل اللذين قوبل بهما. فقد حصلوا على 32 مقعدًا من 138، أي أقل من ربع المجموع الكلي لأعضاء مجلس النواب. وينزع أصحاب هذا الرأي إلى أن النفخ في كير فوز الاسلاميين مقصود، حيث يروم المستوى الرسمي الاستثمار فيه لتوجيه رسائل إلى الداخل الأردني وإلى الخارج. رسائل الداخل مفادها، هذا هو واقعنا وعلينا تحمله، ففي الأردن فقر وبطالة وظروف اقتصادية صعبة، ولكن فيه انتخابات نزيهة (الديمقراطية مقابل الفقر). وما وُضِعَ في الصناديق أُخْرِجَ منها كما هو، وعلينا تقبل النتائج. فهذا هو الواقع، والميدان مفتوح أمام الأحزاب السياسية المتوجسة من حصول الاسلاميين على عدد كبير من المقاعد وخصومهم في الفكر والمرجعيات الأيديولوجية.

أما الرسائل ذات العناوين الخارجية، فموجه أولها إلى أميركا والكيان. وتحمل مضمونًا تحذيريًّا لا لبْسَ فيه ولا غموض: نعتقد أن انتخاباتنا أضاءت لكم بما فيه الكفاية على مزاج الشعب الأردني. نصف مليون ناخب صوتوا للإسلاميين. ولكي نُبقِي المارد في القمقم، ننصح بالتفكير عن جد بإيجاد مخرج ما لوقف إطلاق النار في غزة، وإلا فإنكم تدفعون المنطقة إلى حروب مفتوحة لن توفر أحدًا. ونضيف رأيًا آخر لا يرى حصول الاسلاميين على هذا العدد من المقاعد البرلمانية، إلا من منظور استحقاقات تطورات قادمة على صعيد القضية الفلسطينية بحاجة إلى ختم ديني يشرعنها.

لكن بغض النظر عن مبلغ درجة هذه الآراء من الصحة أو الخطأ، فهناك برأينا ما هو أهم لحاضرنا ولمستقبل أجيالنا.

إن إقبال الناس في مجتمعاتنا العربية على التصويت للإسلاميين بأعداد كبيرة، ونحن لا ننكر ذلك، إنما ينهض دليلًا قاطعًا على أن الوعي الجمعي المهيمن في واقعنا ما يزال أسير اليقين والعاطفة. لم يرتقِ مستوى وعينا الجمعي بعد، إلى وضع الدين في مكانه الصحيح كشأن معتقدي تعبدي خاص، مكانه دور العبادة، ولا شأن له بالسياسة وشؤون الاجتماع الإنساني. نحن الأمة الوحيدة على وجه الأرض، التي لم تُعطِ لله ما لله ولقيصر ما لقيصر، بمعنى أن مجتمعاتنا لم ترتقِ بعد إلى فض الاشتباك المحتدم في واقعها بين الدنيوي والديني. ولعل أوخم تداعيات هذا الاشتباك، تسييس الدين وتديين السياسة. السياسة فعل إنساني نفعي محض، وعندما ترتدي لبوس الدين تتحول إلى وسيلة للإخضاع والإنصياع والتحكم بالإنسان بإسم المقدس.

من الواضح أن الناس ما يزالون يعتقدون واهمين أن الإسلاميين بصفتهم هذه، هم الأقدر على مواجهة التحديات واجتراح حلول خارقة للمشكلات بعون من السماء مؤكد. الغريب العجيب، أن هذا الاعتقاد ما يزال فاعلًا داخل رؤوس كثيرين رُغم أن تجارب الإسلاميين في الحكم أثبتت أنه إلى ملاحقة السراب أقرب، حيث تأكد أنهم بلا مشروع نهضوي مستقبلي. لذا، ركزوا جهودهم بعد وصولهم إلى الحكم في مصر وتونس على كيفية “قضم الدولة” و “أخونتها”. ولم يختلفوا بشيء عن الأنظمة التي حلوا مكانها باعتمادهم الولاء بدلًا من الكفاءة، ليضمنوا هيمنتهم وقمع خصومهم، وهو ما يعني التحول من استبداد الفرد إلى استبداد الجماعة. وتأكد أيضًا، وبشكل خاص في مصر، فقدانهم الرؤية السياسية المناسبة لروح العصر والمواكبة لتحولات المرحلة. فلم يتلبثوا كثيرًا، بعد جلوسهم على كراسي الحكم، حتى وقعوا في حيرة بين الحكم بإسم الدين والدولة المدنية. كما أخفق الإسلام السياسي وما يزال، في استنتاج حلول لإشكالية السلطة السياسية الشاخصة في حياتنا السياسية حتى يوم الناس هذا، منذ قولة الشهرستاني الشهيرة في كتابه (الملل والنحل)، قبل ألف عام:”إن أول سيف في الإسلام قد سُل من أجل الخلافة والحكم”.

مفهوم الإسلاميين للدولة غامض، وللنظام السياسي مُلتبس. فالدولة المتخيلة في عقولهم دينية، مع أن لا دولة دينية في الإسلام، ولم يشهد تاريخنا دولة كهذه. وليس في تصورهم أنموذج للدولة يتجاوز الخلافة، مع أنها اجتهاد بشر أفرزته ظروف زمانه، ولم يُؤتَ على ذكرها في آية قرآنية أو حديث نبوي. والأهم من ذلك، أن التاريخ أصدر حكمه الفصل بشأنها وقُضي الأمر.

ليس في الإسلام نظرية سياسية، أو “تنظير” لنظام الحكم. على الصعيد الاقتصادي، تصب رؤى الاسلاميين في مجرى النظام الرأسمالي بسماته المعروفة. وأكثر ما يمكن أن يقدمه الاسلاميون للفقراء والجياع، هو اقناع الأغنياء بأن يتكرموا عليهم بما يمكن أن تجود به أنفسهم.

مقصود القول وخلاصته، الأمم تتقدم بعقولها وليس بأديانها، ومجتمعاتنا الخاسر الأول من هدر الوقت في ملاحقة السراب ومطاردة الأوهام!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *