الحص في كتابه وسيرة “عهد القرار والهوى”

“الخير هو المناسب للسياسة”، لعلّ ما ذهب إليه إبن خلدون في هذا القول، يختصر معاناة وتجربة الرئيس سليم الحص في الحكم، في فترة “الانقسام الوزاري” بين عامي 1987 و1990.

أكد الحص في كتابه “عهد القرار والهوى “، من خلال الوقائع والممارسات والنتائج التي شهدتها تلك الفترة، على أنّ الوظيفة السياسية هي أنبل الوظائف، وأنّ الوعي السياسي هو سيّد القرار، فيما يحفظ المصلحة الوطنية العامة.

ومن خلال أسلوبه الشيّق الممتع، فسّر عنوان الكتاب ومضمونه والاهداء فيه، على أنّ عنوان “عهد القرار والهوى” يدلّل على واقع المرحلة في أبرز ما شهدت من أحداث جسام، “فكم من تحرك كان مبعثه هوى المتسلطين، وكم من قرار كان هدفه التصدّي لهوى المتحكمين” [صفحة 9].

وعن المضمون يقول: “في هذا الكتاب أتحدث عن تجربتي في الحكم، منذ تسلمي مسؤوليات رئاسة مجلس الوزراء لدى استشهاد المغفور له الرئيس رشيد كرامي، حتى سقوط حالة الانقسام التي كان يتصدرها القائد السابق للجيش في تمرده على الشرعية، ومن ثمّ تنفيذ مشروع بيرروت الكبرى على يدّ الحكومة الأولى التي توليت رئاستها في عهد الطائف، فكان ذلك خاتمة أعمالها” [صفحة 9].

أمّا إهداء الكتاب فله نكهة خاصة ومميزة في أسلوب الرئيس الحص. لقد تعودنا دائما أن يكون إهداء الكتب إلى الذين يفهمون، ولكن “عهد القرار والهوى” موجه “إلى كلّ من لم يفهم. لا ليفهم وإنّما كي يأخذ بيده مصير بلده”.

أن نأخذ بيدنا مصير بلدنا قاعدة جوهرية أساسية في العمل القومي والشأن السياسي، فيها تثبّت صحّة العزائم وقوّة الارادة وتحقيق المصالح الحيوية وتأكيد السيادة القومية، وانتفاء الارادات الأجنبية وتعطيل الأهواء الداخلية المنحرفة بهوى السلطة وتسلط المتهورين والجامحين بجنون العظمة. وعلى أساس هذه القاعدة يتمّ بناء الاستقلال الحقيقي للشعوب الراغبة بالحرية والارتقاء والانتصار في صراع المصالح الكبرى.

يستوقفنا في “عهد القرار والهوى”، أمام سلسلة من المحطات الهامة في حقبة “الانقسام الحكومي”، أبرزها”:

أولا: العهد المشؤوم

يختصر الحص رئاسة أمين الجميل بعبارة “العهد المشؤوم” [صفحة 17]. مؤكدا “إنعدام الثقة” به، ويتهمه بإجهاض محاولتين لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وذلك بالتعاون المباشر مع “الكتائب اللبنانية” و”القوات اللبنانية”، ويشرح دور العماد عون في في تلك العملية، والنتائج المأساوية التي ترتبت على ذلك.

كما يكشف الحص عن جانب هام من شخصية الجميّل، وهي الازدواجية، فهو من ناحية يريد التخلّص من عون، ومن ناحية أخرى يعطّل انتخابات الرئاسة ويوقع مرسوما بتعيين الأخير رئيسا لحكومة عسكرية انتقالية. أمّا الجانب الآخر من شخصية الجميل فهي “المراوغة”، يبدو ذلك واضحا من تعامله مع مسألة اغتيال الرئيس رشيد كرامي، فهو يتظاهر باهتمامه ويختبئ وراء القول أنّه لم يتلق من الحص أوعسيران (وزير الدفاع) أي اقتراح بهذا الشأن، وعندما أرسل إليه الأخيران مرسوما بإقالة الضباط المسؤولين عن حادث الاغتيال، اعتبر ذلك “تمريكا”!

ثانيا: الحكومة الانتقالية

يعتبر الرئيس الحصّ أنّ الحكومة الانتقالية التي شكّلها الجميّل في اللحظة الأخيرة من انتهاء ولايته ليل 22-23 أيلول 1988 حكومة غير شرعية، مستندا في ذلك على:

  1. ليس هناك شيء اسمه حكومة انتقالية في الدستور ولا في العرف، ما يقضي بأن تكون رئاستها لماروني.
  2. هناك عرف دستوري ثابت ومستقر يقضي بأن تكون رئاسة الحكومة لمسلم، ورئاسة الجمهورية لماروني.
  3. السلطة الإجرائية تناط بمجلس الوزراء في حال خلو سدّة الرئاسة لأيّة ملّة كانت.
  4. الحكومة الانتقالية فاقدة الأهلية دستوريا بخروج الضباط المسلمين منها، وفق المادة الدستورية 95.

واستنادا إلى ما تقدّم وإلى المادة الدستورية 62 يؤكد الحصّ شرعية حكومته وعدم شرعية حكومة عون.

ثالثا: المواجهة

كيف واجه الرئيس الحصّ واقع الحكومتين؟

من مبدأ الخير هو المناسب للسياسة، ومن قناعته بأنّ خيار السلام هو الأنسب لحلّ القضايا السياسية العالقة، لما فيه مصلحة الشعب ووحدة مؤسساته انطلق الحصّ لمواجهة هذه المرحلة الدقيقة في “تاريخ لبنان”، السياسي، بل في مصيره العام. لذلك رأى الحلّ في توحيد الحكومتين في واحدة “ضمانا لوحدة الوطن”. فوضع تصوّرا يقضي باعتماد إحدى الحلول الآتية:

  1. إلغاء إحدى الحكومتين لمصلحة الحكومة الأخرى.
  2. دمج الحكومتين في حكومة واحدة.
  3. إلغاء الحكومتين لمصلحة واحدة جديدة.

أدى رفض عون للصيغ المشار إليها أنفا إلى ادخال البلاد تحت مظلّة الأمر الواقع المأزوم: حكومتان تهددان وحدة الكيان وتنذران بالتقسيم في ظل اشعال حربي التحرير والالغاء في السباق الدموي بين جعجع وعون على السلطة.

رابعا: الحلّ

ازاء ما تقدّم كان لا بدّ من الحلّ من أجل انقاذ وحدة البلاد وانهاء الأمر الواقع، تمحور الحلّ حول خيار واحد هو إزاحة عون سياسيا أو بالقوة، وبالرغم من إصرار الحصّ على الخيار السياسي، عبر مشروع مرحلي، إلا أنّ المعارضة القاسية من داخل حكومته أدى إلى إفشاله، وتقدّم الحلّ العسكري سريعا لينتهي الوضع الشاذ بعملية عسكرية صبيحة 13 تشرين الثاني 1990.

كتاب “عهد القرار والهوى”، دراسة عميقة شاملة لفترة عصيبة مرّ فيها لبنان، عاشها رجل دولة في السلطة، لم يخض المعارك على الخرائط، ولا عبر النظارات، وإنّما كان جزءا من مأساة الشعب، حمل ألامه، وشاركه همومه.

فهل أسقط هذا الكتاب وجهات النظر المتعددة، المتناقضة والمتضاربة التي سجّلت أحداث تلك المرحلة كلّ من زاوية رؤيته الخصوصية، الضيقة والمسيسة؟ وبالتالي صحّح وجهات النظر ازاء تلك الفترة المصيرية من تاريخ الكيان اللبناني بحيث ينظر إليها المؤرخون والمراقبون والأجيال من منظار واحد، وحكم واحد، هو منظار الرئيس الحص، وحكم الرئيس الحص وضمير الرئيس الحص؟

كتابه “عهد القرار والهوى” كان خلاصة تجربة لرجل سمي ضمير لبنان، وقد أدى دوره دون ان يشاء امرا لنفسه ومن هنا تميزه وقد رحل وبات تاريخه جزءا من تاريخ هذا الكيان بصعوده وهبوطه