كلَّما لاحت ذكرى 14 أيلول في كلِّ عام، تبدأ بعضُ الشاشات المعروفة الخلفيَّة الطائفية في لبنان، باستضافة المُقرَّبين من “بشير” ومعاونيه السابقين، حتى يتحِفوا المشاهدين بإنجازاتِه خلال دولة الواحد والعشرينَ يوماً، تحت الاحتلال. ويغدقونَ علينا ميزاتِه الاستثنائية، كرؤيتِه الثاقبة وبنائه لعلاقاتٍ دولية ومحليّة، ووضعِه لمخططاتٍ استراتيجية للمستقبل، قبلَ أن يتحوَّل مشروعُه المُراهق كشخصِه إلى حلمٍ قامَ على أشلاء عشرات الآلاف من البشر، وعلى جراحِ ونزوحِ مئات آلاف من المواطنين، وعلى أنقاضِ أجزاء واسعة من ال 10452، التي غلبَ عليها كمساحة لبنان، شعارُه الخاصّ.
وكأنَّ الكذبَ في هذا الزمان وقَلب الحقائق ونكران الوقائع، بات الملحَ اليومي الذي تُملَّح به يومياتِنا. وكأن هذا الباش الآتي من عائلة سياسية تقليدية وعريقة بعلاقاتِها مع الخارج بدءاً من فرنسا المنتدبة وإسرائيل منذ نشوئها، كما تؤكِّد وثائق كثيرة، ثمَّ انتهاءً بالولايات المتحدة، والمتلقِّي من جميعها دعماً لا مثيل له في الوسط السياسي بتاريخ لبنان، أمسى بطلَ التغيير وفرض النظام وإلغاء الفساد والفوضى، لا بل أمسى بطلَ التحرير والركن الأساسي لبناء الدولة.
وعن أيةِ دولةٍ كنّا ولا نزالُ نتحدَّث، ولكلِّ واحدٍ منا منظورُه الخاص لدولةٍ على قياسِه.
ثمَّ ظهرت وسائلُ التواصل التي استفادت من نشوء شبكات الاتصال، وراحت تزاحِمُ وسائلَ الإعلام على بثِّ وترويجِ ما هبَّ ودبَّ.
فلا بأسَ إذاً فيما يُقال للأجيال التي لم تكُن قد ولِدت بعد، حتماً لتبييض الصورة ولتخفيف وقع الخسارة وفشل مشروع بناء كانتون ذات هيمنة طائفية، استعدادا لمرحلة لاحقة لم تكن قد برزت بعد فيها داعش والنصرة وجيوشُ التكفير، لمُلاقاة مشروعِه المدعوم من نفس الجهات والقوى المعروفة، لترسي دويلات تسبحُ بفلكِ الدولة اليهودية الأقوى. ولا بأسَ من التهجُّم اليومي على محور المقاومة والمقبوض ثمنه، وفق تصريحاتِ الممولين، لاستعارةِ هذه الصفة منها لصالح الأحزاب الحليفة للعدو وللاستعمار المُعاصر، والتي أطلقت على أحزاب المقاومة تسمية الممانعة.
فعندما اجتاح هيتلر فرنسا كان المارشال Pétain والذين معه مسيطرين على معظم مفاصل الدولة وعلى أوسع مساحة من الأرض الفرنسية، مما أجبر الجنرال De Gaulle على الهروب إلى لندن، حيث أدارَ بصوتِه عبر الإذاعة البريطانية حركةَ المقاومة.
فالتاريخُ أيها الناس يُكتَب اليوم وسيُكتب غداً وفي كلِّ يوم، كما كُتِب في الماضي القريب الذي لن يتبدَّل. لكنَّ الفارق بين الماضي البعيد واليوم كامنٌ بإرادة الشعب وإرادة الحياة، التي تولَّدت عبر التجارب الأليمة والمآسي، فأطلقت حركاتِ المقاومة المشروعة بعرفِ كلِّ الشعوب.
فيما لن يَحفظَ التاريخُ ادعاء مقاوماً لكن زائفاً، فتحَ النارَ على نازحين في مخيمات اللجوء، واغتال غدراً المنتمين لأحزابٍ وطنية كما المنافسين من نفس الصفّ، ثمَّ استدرجَ جيشاً جرارا، ليدعو بعدها جيشَ العدو لطردِه، فأودى بعشرات الآلاف من اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين لأسبابٍ لا تُعدّ ولا يمكن إحصاؤها، إنما يمكنهم وبكل وقاحة أو بساطة تبريرها. وبعد أن تكشَّفت للغافلين الألاعيب والبِدَع، لم يغيِّر قسطٌ متزمِّتٌ ومتقوقِعٌ بأفكاره اللادينية وميولِه الرجعيَّة موقفَه، فيما تبدَّلَ المشهد على امتداد المسكونة، وراحَ كلُّ إنسانٍ يتحلَّى بصفاتٍ إنسانية أو إيمانية، يدعمُ قضايانا المحقة في فلسطين وغير فلسطين.
إن استُبيحَ وطنٌ وأُذِلَّ شعبٌ وانتُهِكت أعراضُ مواطنيه، لا يحسبنَّ أحدٌ نفسَه بمنأى عن النتائج مهما كانت أفكاره، بل أمامه واجبُ دفاعٍ مُقدَّس لا تعلو حياتُه عنه شأناً.