أساطير تراثنا

صباح الخير يا قنديلنا الاحمر في الديجور والعاصفة.

 صباح الخير يا تموز الجمال والكمال، أيها المسافر دوما على دروب القمر.
 صباح الخير يا قلماّ من رصاص، ويا قيثارة من ذهب وعطر وسماء.

 قرأت باكراً جداً فؤاد سليمان وعجبت بأسلوبه وأفكاره وجرأته وصدق صرخته. طلب مني رئيس السمنار يوم كنت في الثانوي الاول ان ألقى خطاباً عاماً بمناسبة عيد المعلم. لجأت حينها وبدون وعي مني الى مقالة تموز “عبودية الحرف” حيث ينتقد العبارة السائرة “من علمني حرفاً صرت له عبداً”، معتبراً أن العلم يحرر الانسان من العبوديات كافة.
    ففي كل صباح ومع صياح الديك كان يحرر فؤاد مقالاته في جريده “النهار” في زاوية خاصة حملت عنوان “صباح الخير”. وكان يمهرها بتوقيع تموز، الاله السومري الأسطوري. وبفضل هذه الزاويه التموزية وبفعل شهرتها صار العنوان “صباح الخير” اسماً لمجلة “صباح الخير” الغرّاء. وقد جُمعت مقالاته التي توقفت بموته الباكر وهو دون الاربعين في كتاب “تموزيات”. كذلك نشر قصائده في الثورة والحب والغضب والانسان في ديوانه “أغاني تموز”. أحبّ الترحال الى مطارح العز والبطولة وكهوف التراث وتلال العشق الالهي وجعل من تموز ملكاً متوجاً في مملكة الحب والجمال. فهو لم يغادر يوماً بيته في العاصفة، ولم يتخلّ مرة عن زوابعه وعواصفه. أصدر في غضبه وعزه وعزة نفسه كتابه “القناديل الحمراء” التي تذكر بالزوبعة رمز حزب سعادة. ولد في فيع التي تعني الايمان وحب الحياة والقائمة في الكورة الخضراء حيث ينبت قرب كل بيت وشجرة “أرزُ العز”.

   إن أجمل ما خطه يراع هذا الاديب الشاعر هو كتابه الرائع ” درب القمر”. ودربه هذا لم يكن حلماً ولا خيالاً.  ففي الواقع كان القمر وخاصة في ليالي الصيف يرسم بضوئه المسكوب على درب ترابية في جوار من مساحات خضراء درباً منوّرة يقصدها العشاق ووصفها شاعرنا بدرب القمر. وقامت القرية بلفتة تكريمية نحو تموز ودرب عشقه، فأطلقت على المنطقة اسم “درب القمر” الذي صار مزاراً أدبياً وسياحياً. اقتبس كلمات من “تموزيات” تدخلنا الى عالم الاسطورة الالهية التي شكلت نبع الالهام الفكري في الارض وعلى مر العصور.

1● ليته كان لي أن املأ صباحات الناس بالخير.

 وأنه من الخير وحده يرتفع هذا الصوت في هذه الزاوية.

 ولن ترحم سهام تموز وحشاً. فإما أن تصرعه الوحوش البرية وتمزق قلبه، وإما ان يصرعها فلا يبقى عندنا الا الخير. (صباح الخير).

 2● أرخيها يا عشتروت أهدابك الطويلة

فما في حقول لبنان سنبلة حلوة كهذه الأهداب. طيب طيب، هذا الجسد… كأنه تفاحة من الجنة! (تموز).

  3● انا وسادة لرأسك يا تموز وسرير لجسدك.

 يا أطيب ما في لبنان من صيادين خذني كما أنا… وليجرِ دمك في دمي. وسِّدني زندك ايها الصياد الذي أحبه. زندك سنديانة من لبنان. ويطلع الضوء ورجل إله صريع على صدر امرأة… (عشتروت).

4● حتى الالهة المقدسة بدأت تنزل من سماواتها درجة درجة.. (قرابين الالهة).

    شدد عالم النفس يونج على الذاكرة التراثية الجماعية التي تختزن في اللاوعي خبرات الاجيال الراحلة، واعتبر أن هذه الذاكرة تقوى جيلاً بعد جيل وتقوم بمساعدة الناس في حياتهم وافكارهم وسلوكياتهم. فالتراث (=traces) يتناقل ويتكاثف بصورة لا إرادية جينية بدون تعلم وبدون جهد للمحافظة عليه. التراث حي فينا ولا ينتمي الا الى الحاضر، رغم أن منبعه في الماضي ومسيره الى الابدية.  التراث لا نحافظ عليه، بل بالعكس هو الذي يحافظ علينا. وهذه القوة الخالدة تشكل الجزء الاكبر من دماغنا وتعمل أكثر الاحيان بدون وعي منا. ونلمس ذلك في الأحلام أثناء النوم وفي التأملات الواعية واللاواعية، وفي الوحي والحلول المفاجئة… فالفنانون والشعراء، بسبب من قوة خيال واحساس، هم من أقدر الناس على استشعار هذه الذاكرة الانسانية العتيقة التي لا تموت ابداً. لذلك يشكل التراث المفتاح الذهبي في عملية البقاء والاستمرار التي يقوم بها البشر جميعاً على أتم وجه، وأيضا في عملية استكشاف لهذه القوة الباطنية الجبارة التي لا يقوم بها الا الباحثون والدارسون والعباقرة. وشاعرنا تموز يلتجئ الى التراث الاسطوري لا ارادياً وبدون جهد ويشعر أن هذا العالم عالمه لأنه يشبهه ويثير فيه أحاسيس وأفكاراً ورؤى. إنه لمن البديهي جدا أن نعرف أن المشكلة الفكرية في الارض منذ أكثر من 2500 سنة يمكن اختصارها بأمر واحد. لقد عجز الجميع عن تفسير الأسطورة باستثناء العلاّمة “زكريا ستشن” في كتابه الذي هز الأرض والصادر في العام 1976 بعنوان “الكوكب الثاني عشر”. شخصيا، قمت باستشارة واعية عملاقة للتراث الارضي وسرعان ما تبين لي انني فهمت الاسطورة كما فهمت اساطير البشر والالهة بدون جهد لان الأساطير تقبع في جيناتنا وذاكرتنا ولا تحتاج إلا الى استثارة، رغم ان البشر يعيشونها يومياً في اللغه والدين والسياسة، هذا الثالوث الوجودي الخالد. يمتاز العالم بانه يقصد طوعياً هذا الثالوث ويحفر في اعماقه فتتفجر أمامه الحقائق الخالدة مثل ينابيع جديدة ومناجم جديدة وعوالم جديدة، هي كلها اصلاً أقدم مما نتصور. شخصياً، حفرت عميقاً في هذه المناجم ووضعت جواهري في كتابي الموسوعي “الكتاب الخالد”.

   الناس أجمعين من بشر عاديين ومن باحثين وفنانين يُقبلون بإندفاعة السيول الى معرفة سر هذا الثالوث الوجودي: اللغة والدين والسياسة. وكان من الطبيعي أن يركن تموز الى الاسطورة الساحرة لانه ينتمي الى النهضة التي تشكل نبراس البحث ومفتاح الحق وطريق المعرفة.

   ليست الاسطورة اسطورة كما نفهمها. الأسطورة هي تاريخ اذ تتماهى مع الكلمة اللاتينية استوريا (Historia). واكتفي هنا بكلمات قليلة عن إلهين عاشقين كتب عنهما تموز وهما الاله “دوموزي” والإلاهة “عشتار”. لقد عهد خلفاء الاسكندر الكبير الى الكاهن البابلي بيروسوس بكتابة تاريخ الأرض منذ البدء.

 دبج العالم الاسطوري خمس مجلدات لم يصل منها الينا الا لوحة في غاية الاهمية وعرفت بلائحة الملوك السومريين. ويقسم التاريخ الى قسمين قبل الطوفان وبعده. فهي تفيد أنه في أزمنه البداية وحتى الطوفان كانت الالهة تحكم، بعد أن انزل آنو من السماء الملكية لاول مرة. أما بعد الطوفان فتفيد أن الملكية أنزلت للمرة الثانية بحيث يملك حينها ملوك أرضيون برعاية الالهة. حدد بيروس ازمنة ما قبل الطوفان ب 432,000 سنة اي ما يعادل 120 سنه نبرانية علماً ان هذه السنة التي عرفت “بالشار” تعادل دورة واحده من كوكب الآلهة نبيرو وتعادل 3600 سنة أرضية. وقد جاء في سفر التكوين التوراتي (وهو اصلا كتاب البداية حسب النص العبراني): “وتكون سنوه 120 سنة “. وان كنا لا نريد الدخول في جدال في ذلك نكتفي بالاشارة الى ان الحديث هو عن الله لا عن الانسان والى ان صيغة الكون الاصلية هي الماضي وليس المستقبل. وعليه تكون الترجمة الدقيقة كما يلي: “وكانت سنو الله 120 سنه نبرانية”. يرد هذا الرقم ذاته في كتابات ارسطوالذي يشرح ان هذا الرقم الالهي يعادل 432 ألف سنة من سنواتنا الارضيه.

 دموزي ابن الرسول الاول من السماء الى الارض آيا او أنكى، وقد حكم في سومر حسب بيروسوس 36000 سنة اي 10 شارات وكان ترتيبه الخامس. وكان اسم الاله الأول أللا او أللال او الوروس … ودموزي اسم مركب من جذرين: دامو او دوم وزي او دي او زيو او ذات … ويعني الاله الملك الخالد. وصار على ألسنة بلاد الشام وديار مصر والسودان تموز بعد تحول الدال الى التاء وبعد حذف العلامة الاعرابية. وقد كرم بعد موته بتكريس الشهر السابع بإسمه “تموز”. وعندما اراد مؤسس روما القيصر يوليوس أن يختص نفسه بشهر فضّل إطلاق اسمه على شهر تموز، فأصبح جولاي او juillet. وقد عرف في فينيقيا القديمة وفي كيريكيا باسم ادوني (ادوناي) وادونيس تباعاً. والاسم هذا يعني سيدي او دون التي ما تزال مستعملة في شبه الجزيره الايبيرية.

  أما عشتاروت فهي ابنة سين بن إنليل فقد عشقت حتى الجنون هذا الراعي الملك وحلمت ان تتزوجه وتلد منه ولداً يحكم ممالك الأرض الثلاث سومر ومصر والهند.

 عرفت في الهند ب 1000 صفة وإسم، في طفولتها دعيت إنانة التي اعطت عناية وعنايات. عرفت ايضاً إنان التي اعطت عنان، عنانة، حنان، حنّون كما عرفت بإستار، وإشتار وإستان وكلها تعني النجمة السماوية كما في الانجليزية “Star”…

   اما وقد طال المقال، وصدح الديك بالموال، فقد لملمت اوراقي والاقلام وسكت اللسان عن الكلام.

30\8\2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *