الإسلام
في القرآن هناك الكثير من الآيات التي تتحدث عن بني إسرائيل وتوريثهم الأرض. في سورة “البقرة” أطول سورة في القرآن، “تتحدث 111 آية (من أصل 286) بشكل مباشر عن قصص بني إسرائيل. كذلك الامر في بعض السوَر الأخرى كالمائدة والأعراف والقصص وغيرها التي تخبرنا عن بني إسرائيل. نذكر منها:
“وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ. يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ”. (المائدة: 20-21)
“وأورثنا القوم الذين كانوا يُستضعفون مشارقَ الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحُسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون”. (الأعراف، 137)
“وَنُرِيد أَنْ نَمُنَّ عَلَى الذين اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنجْعَلَهمُ الوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لهُم فِي الأرض وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وجنودَهمَا مِنْهُمْ مَا كانوا يحْذَرونَ”. (القصص 5، 6)
“ونمكن لهم في الأرض فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز، ومقام كريم، كذلك وأورثناها بني إسرائيل”. (الشعراء: 57-59)
“وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لفيفا. (الاسراء: 104)
رغم التأويلات والتفسيرات المختلفة لهذه الآيات فيكاد يجمع الفقهاء على رفض التفسير الحرفي للآيات وبالتالي رفض الوعد الإلهي ل‘بني إسرائيل’ في أرض كنعان. الدكتور معتز الجعبري يؤكد في تفسيره على “ضرورة النظر في القرآن الكريم بشكل كلّي، وربط الآيات بعضها ببعض دون التوقف التفصيلي عند آحادها” وبناء على ذلك يستخلص من سورة البقرة “شروط استخلاف الله لأمة من الأمم في الأرض، والقوانين الإلهية التي تحكم ذلك، ومن تلك القوانين يتبين بشكل قطعي أن الله لا يحابي أمة ولا ينحاز إلى شعب”. بعد ذلك يفسر الجعبري معنى وراثة الأرض في القرآن فيقول انها “تخليص لها (الأرض) من رجس كل طاغوت يحول بين الناس وبين معرفة الله وتوحيده، وإخراج الناس من ظلمات الشرك ودنسه إلى نور الله، … ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى؛ قال تعالى: “وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ” (سورة الأنبياء: 105-107). الجعبري يلخص بعد ذلك الفرق بين نظرة المسلمين ونطرة اليهود لوراثة الأرض بانه الفرق “بين رؤية بصيرة للوجود ورؤية ذاتيَّة مظلمة” كما يقول محمد علي آل عمر في كتابه “عقيدة اليهود في الوعد بفلسطين -عرض ونقد”(18).
مواجهة غزوة “الوعد الإلهي”
الوعد الإلهي في ارض كنعان قد يكون من اهم الوعود في التاريخ التي كان لها تأثير سلبي كبير على حياة المشرقي السوراقي والعالم العربي في القرنين الماضيين. مع أننا نعي تماما العامل السياسي الاستعماري الأساسي في اغتصاب فلسطين والذي “وَجد في الوعد الإلهي ضالته ووظف اليهود لخدمة هذا المشروع” كما شرحت في مقال “مصالح أوروبا الاستعمارية واليهود القومية والتوراة (19)، لا يـمكننا أن نتجاهل خطورة الوعد وبقاؤه نص غب الطلب وإمكانية استعماله حرفيا، وتأثيره على الراي العام العالمي وخاصة “الابراهيمي‘المؤمن منه. ان ايمان معظم المسيحيين (الغربيين خاصة) بالوعد (ولو بدرجات متفاوتة) ووجود آيات قرآنية تدعمه في وراثة بني إسرائيل لأرض كنعان يؤدي الى تعاطف وقبول بالدولة الصهيونية على انه تحقيق ’ للإرادة الإلهية‘، وتبرير لإرهابها الذي يحصل او قد يحصل ضدنا، نحن ورثة شعب كنعان.
لمواجهة هذه “الغزوة الدينية” على شعبنا وحقوقه في أرضه التي تتشعب لكل الأديان والمذاهب المسيحية والمحمدية، لا بد من محاربتها ثقافيا على أكثر من صعيد وفي كل انحاء العالم. من اهم الأسلحة التي يمكن استعمالها وهي صالحة لاي زمان ومكان هو سلاح الحقيقة. إن علم الآثار والأنثروبولوجي والعلوم الطبيعية لم تجد أي دليل او إثر لإبراهيم ورحلته من مدينة أور الى حران والى فلسطين، ولا أي أثر لتيه موسى وبني أسرائيل في سيناء (1) وغزو واحتلال ارض كنعان من شعب عبراني في العصر البرونزي، ولا أي اثر لمملكة متحدة في يهوذا والسامرة في القرن العاشر ق.م. هذا ينسف الوعد الإلهي من أساسه عند أصحاب العلم والمنطق ويرجح ما استنتجه الباحث فراس السواح، بان من صاغ الوعد الإلهي هو عزرا الكاهن “أبو اليهودية” ليؤله ‘عودته الى يهوذا.
بما ان التحليل العلمي المنطقي لا يقنع الكثير من المؤمنين فعلينا التعامل مع البعد الديني من خلال مفاهيم الدين ذاته وابراز حقيقة الدين وغايته الإنسانية وخاصة في المسيحية والإسلام وتناقضها مع مفهوم الوعد المزعوم لشعب مختار. لكن قبل البحث في المسيحية والاسلام لا بد من الذكر ان التأويلات اليهودية، التي ما زالت مستمرة الى اليوم عبر بقايا ‘اليهودية الحاخامية، ممثلة بشكل أساسي بحركة “ناطوري كارتا”، (والتي ما زالت تعتبر ان القومية اليهودية هي “قومية روحية أساسها التوراة وكل من لا يعترف بها كذلك ينقض أسس اليهودية”، والتي ترفض دولة إسرائيل وتعتبر ان المساع البشرية لإقامتها هي معادية لمشيئة الرب و”الماشيّح” المنتظر وحده يستطيع إقامتها،) تفرغ الوعد من مضمونه السياسي وتشكل عاملا مساعدا على محاربة المشروع الصهيوني.
على الصعيد المسيحي اهم العوامل الناقضة للوعد هي إنسانية الدعوى المسيحية فالمسيح لم يأت ليكمل ما سبقه عليه “اسلافه” العبرانيين، بل ليصححه عبر رسالة خير ومحبة لكل البشرية، ليس فيها شعب مختار ولا ارض موعودة، ولهذا لا يصح ربط الانجيل بالتوراة بكتاب مقدس واحد. رغم صحة هذه التوجه، فإن تَجذُّر المعتقد المسيحي بان المسيح جاء ليكمل واعتبار التوراة عهدا قديما من الكتاب المقدس يجعل هذا الهدف من الأهداف البعيدة المدى، ولذلك يجب ردفها بأهداف قريبة المدى تؤدي تدريجيا الى الهدف الأساسي. ان التفسير الحرفي للوعد الذي تتبناه الطوائف المسيحية الإنجليكية الصهيونية هو أخطر تهديد للمسيحية ولامتنا اليوم.
ان تعاون الكنائس المسيحية المشرقية في شمال أميركا لتفعيل العمل المناهض للصهيو-مسيحية وتشويهها الديانة المسيحية والعمل مع زعماء الكنائس الإنجيلية والكاثوليكية والسريانية الأرثوذكسية واللوثرية على أساس “إعلان القدس بشأن الصهيونية المسيحية” الذي صاغوه في عام 2006 وحددوا فيه معارضتهم للصهيونية المسيحية باعتبارها “تعليماً كاذباً” وأعلنوا فيه أن تحالف المسيحيين الصهاينة مع بعض القادة السياسيين أدى إلى “دوامات عنف لا تنتهي تُقوض أمن جميع شعوب الشرق الأوسط وبقية العالم” (20).
أخيرا على الصعيد الإسلامي المحمدي لا يمكن تجاهل الآيات القرآنية التي تدعو بني إسرائيل عبر موسى لدخول “الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ” “َونَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنجْعَلَهمُ الوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لهُم فِي الأرض” وغيرها من الآيات (كما ذكرنا سابقا) التي توحي بأنهم ورثة الأرض في فلسطين. رغم شبه الاجماع اليوم بين المسلمين على رفض التفسير الحرفي واستخلاص الدكتور معتز الجعبري على “ضرورة النظر في القرآن الكريم بشكل كلّي” وان الله في القرآن “لا يحابي أمة ولا ينحاز إلى شعب” وبأن الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ”(سورة الأنبياء: 105-107)، فان المستقبل قد يخبئ مخططات ’ إبراهيمية ‘معاكسة.
ان مشروع “الديانة الابراهيمية” باختصار يدعو في العلن الى ان يحل مفهوم “الدبلوماسية الروحية” و”السلام الديني العالمي” بدل الحروب الدموية لحل النزاعات. أهم دعائم المشروع هو “المسار الابراهيمي” الذي يسير على خطى ’ النبي ‘إبراهيم، من مدينة أور النهرينية العراقية الى حران جنوب طوروس في تركيا ومن ثم يعرج جنوبا عبر حلب ودمشق والأردن الى فلسطين ويكتمل بوصوله الى مكة المكرمة في السعودية. الهدف المعلن من هذا المسار هو إقامة “الولايات المتحدة الإبراهيمية” بين دول المسار والجوار وتعاونها ثقافيا واقتصاديا عبر السياحة الدينية، وحرية التجارة، والتنقل، وغيرها.
الأهداف غير المعلنة من هذه الكونفدرالية هو “مفهوم أصحاب الحق الأصلي”(21) والذي يفتح المجال لادعاءات خطيرة ب “حقوق” تاريخية لليهود في هذه الدول، والاهم والأخطر هو شرعنه ملكية “ارض الميعاد” لبني إسرائيل او اليهود الذي لا يمكن تشريعه إسلاميا الا عبر تفسير وتأويل الآيات المذكورة آنفا بشكل بتناسب مع المشروع السياسي.
المصادر:
الحلقة الرابعة
(18) كيف أبطل القرآن مزاعم اليهود بأحقيتهم بأرض كنعان؟، معتز الجعبري
(19) مصالح أوروبا الاستعمارية واليهود القومية من القرون الوسطى الى نشاة الصهيونية – راجي سعد
(20) الصهيونيّة المسيحيّة وإسرائيل. ونهاية الزمان! – راجي سعد
(21) “الدّيانة الإبراهيميّة”؛ لعبة التّنين القديمة لتمويه هويّة الأرض – د. زينب الطحان