بين غروب غرب وشروق شرق

في أقلّ من نصفه الأوّل، شهد القرن العشرين أربع ظاهرات غير مسبوقة في التاريخ. فبعد الحرب الكونية الأولى نشأت “عصبة الأمم ” في العام 1920 ،وبعد الثانية انبعثت من رماد عصبة الأمم ” منظمة الأمم المتّحدة “في العام 1946 . ويمكننا أن نضيف إلى هذه الرباعية الدولية ظاهرة خامسة ملازمة تمثّلت بدخول الولايات المتّحدة الأميركية بكامل لباسها الكاوبوي على المسرح الدولي الذي أعمته حين قصدت تكحيله والذي لن تنسحب منه إلاّ بعد السقوط في هاوية العزلة والتقسيم والعار.يعود الفضل في إنشاء “عصبة الأمم” إلى عبقرية الرئيس وودرو ويلسون الذي تمكن من إدراج مبادئه المعروفة بالعقيدة الويلسونية في ميثاق هذه الهيئة الأمميّة القائمة  على تفوّق القانون الدولي العام على قوانين الدول الوطنية والقوميّة.

 كان ويلسون يعتقد في قرارة نفسه أنّ السماء أوكلت إليه بدور مسيحاني رسولي . يقول في أحد خطاباته :”إنّ الله ، لحكمة خفيّة ، قد ترك القارة الأميركيّة جانباً واستبقاها لنا في هذا الزمن لنقوم بدور حماية العالم وتنويره على مبادئ الديموقراطيّة والحريّة وتفوّق القانون الدوليّ” . وهذا بالضبط ما صرّح به جورج بوش الصّغير حين قام بغزو العراق وتدميره حضارةً وشعباً في العام 2003: ” إنّني أقوم بمهمّةٍ سماويّة أوكلها الله إلينا ” . كان واضحاً للغاية أنّ الامبراطوريّة الأميركيّة قد ولدت في بداية القرن العشرين ورسّخت قواعدها الفولاذية بعد الانزال في النورماندي وهزيمة هتلر . فإذا كانت روما واليونان قد اعتمدا على القوّة العسكريّة لبسط النفوذ على أقاليم الدنيا فإنّ أميركا قد توسّلت مبدأ القانون الدولي وجسّدته في دولة الدول”الأمم المتّحدة ” واضعة يدها بكل شاردة وواردة على هذه المنظّمة العنكبوتيّة الفائقة التعقيد والقوّة . ومن سخرية الأقدار ، أنّ الولايات المتّحدة الأميركيّة لم تكن يوماً عضواً في عصبة الأمم لأنّ ويلسون لم يحصل على موافقة مجلس الشيوخ على طلبه بالإنضمام .

لعلّه من المفيد أن نشير إلى أنّ الأمم المتّحدة عملت وتعمل على قياس سماوي يعجز عن استيعابه البشر أفراداً ودولاً . فهذه الجمعيّة الأمميّة تدخّلت وبشراسةّ وسريّة إلى حدّ التحكّم بعلاقات البشر الجنسيّة وبحبل النساء والاجهاض والبرامج التربويّة المعادية للإسلام. فقد جعلت منها أميركا شرطيّاً عالمياً ومؤدّباً بلا حدود وقررت أن مبادئ الحريّة والديمقراطيّة هي دين العصر المسيحيّ القادم . كان يتملّكها هاجس مرعب من عودة الإسلام إلى حكم الكوكب. فهي لم تخش يوماً الشيوعيّة العالميّة التي انهارت تحت ضرباتها بعد عمرٍ دام أربع وسبعين سنة . وبعد الإطاحة بهتلر فتحت حرباً دائمة على الجميع وبالواسطة في ما يسمّى بالحرب الباردة التي جلّدت مع تفكك الاتحاد السوفييتي . بعد ذلك النجاح الأسطوري راحت أميركا تبني نظاماً عالمياً جديداً إلى دهر الدهور يتأسّس على فرض القيم الغربيّة على الكوكب عبر حلف شمال الأطلسي (الناتو) ومنظمة الأمم المتّحدة. ويضيق المجال في تعداد الكوارث الزلزاليّة التي أسقطتها على رؤوس الناس والقادة والدول . وأكتفي بالإشارة إلى بعض الأمور : الحرب على الإرهاب – غزو العراق وتدميره بعد حادثة أبراج نيويورك المشكوك بأمرها – الحروب على أفغانستان – الربيع العربي – الإنضمام إلى الناتو تمهيداً لتحويل الإتّحاد الروسي إلى دويلات ووضع اليد على المشرق ومن ضمنه إيران وتركيا .

كان هنري كيسنجر المنظّر الأعظم لهذا النظام الجديد الذي لم يحظَ بالنجاح بل ، على عكس ذلك ، تبدّد كحلم ليلة صيفٍ وبات الغرب كلّه بعد الحرب التي شنّها عليه بوتين القيصر على شفير هاوية التقسيم وفقدان التوازن والهيمنة . رسخ في ذهني في مطلع الشباب أنّ كيسنجر سيكون منظّر الخراب والموت في مشرقنا لفترة تتجاوز نصف قرن . ففي زيارته للبنان كوزير خارجيّة في العام 1975 رفض أن يهبط في مطار بيروت الدوليّ بحجّة أنّه غير آمن وأصرّ على الهبوط في مطار رياق العسكريّ معلناً بذلك إشعال حرب أهليّة لمّا تنتهي حتّى الساعة . كانت أبحاثه تشكّل الرأي العالمي  وتفرض نفسها حتّى على الأعداء لأنها لم تكن مجرّد تحليل بل كانت عبارة عن خطّةٍ وأجندة وتصاميم تسعى أميركا لترجمتها على العالم بأسره . وقد تبسّط بالتفصيل المملّ في شرحه للنظام العالمي الجديد القادم بعد زوال السوفيات في كتابه ” ديبلوماسيّة ” . وجدير بالذكر ما قاله كيسنجر في إحدى مقابلاته : ” لقد قدّمت لليهود خدمات فائقة الأهميّة . ولذلك ينبغي أن يضاف اسمي في التوراة إلى جانب أسماء الأنبياء من بني إسرائيل .” وقد عمّر كيسنجر مئة عام ونيّف من أيّام وكان رحيله في عامنا الجاري هذا. وقد قام مؤخّراً بزيارة إلى الصين حيث استقبل بحفاوةٍ وأبهة واستمع إليه قادة البلاد وعلى رأسهم شي جين بينغ كمن يستمع إلى الملوك وحكماء الزمان . فضّلت أميركا في العقد الأخير من القرن المنصرم أن تبقي اللعبة على البارد فأشعلت حربين بين العراق وإيران واحتلّت أفغانستان وفكّكت الاتحاد اليوغوسلافي . ولكن ، وما إن دخلنا في الألفيّة الثالثة حتى حمي الوطيس فقامت باجتياح العراق بأقلّ من شهر في العام 2003 على أثر انهيار أبراج نيويورك . وكرّت سبحة  الحرائق في البلدان العربيّة باستثناء من يحمل منها صفة مملكة أو إمارة .

   وعندما بدأت تتزايد الأعداد في الناتو والاتحاد الأوروبي قرّر الغرب تحويل روسيا إلى مجموعة عشائر وقبائل . فكان الردّ الروسي  مزلزلاً وما يزال سارياً . وقبل أن أترككم إلى لقاءٍ آخر بعيد عن الحرب العالمية الدائرة أخبركم عن ثلاثة إشارات وشيكة الحدوث وهي : 1- إنسحابات بالجملة من الناتو 2- انسحابات بالجملة من الاتحاد الأوروبي – 3- منظمة الأمم المتّحدة تبدأ طريقها نحو الزوال – 4- نشوء معسكر عالميّ شرقيّ جديد .

                                                                                                   24- أغسطس -2024