القرن العشرين قرن الأعاجيب بآمتياز. ففيه وجدت البشرية نفسها أمام مشهد سوريالي لم تعرف مثله منذ اكثر من الفيتين ونصف من الزمان. لقد شهدنا فيه براكين زلزالية غير مسبوقة في السياسة والدين والتكنولوجيا لماّ تهدأ بعد. فقد قطع نفسه دفعة واحدة مع عالم قديم عجوز ودخل في عالم جديد وبسرعة الضوء. لقد عرف حربين عالميتين غير مسبوقتين تفصل بينهما إحدى وعشرون سنة وجرتا في فترة زمنية قياسية قبل ان يبلغ القرن نصف عمره. ولاول مرة تعرف البشرية، وعلى إيقاع هاتين الحربين، إدارة سياسية عالمية لدول الكوكب وشعوبه تجسدت بنشوء “عصبة الامم” و “منظمة الامم المتحدة” . ايضاُ وايضاً ولاول مرة في تاريخنا الامبريالي القديم شهد الكوكب مفهوم الدولة الوطنية الصغيرة وولد في اقل من قرن حوالي مئتين وخمسين دولة بدستور وبروتوكول وإتيكيت تذكرنا ببابل وأشوريا العظيمتين. يحتاج هذا القرن العجيب الغريب الى دراسة خاصة لأننا نعثر في تربته على جميع البذور الفكرية التي تحكم حاضرنا ومستقبلنا البعيد.
قديماً كانت تحدث حروب تقلب وضعاً كونياً وتخلق حالة جديدة بالإسم فقط مثل نشوء الامبراطورية الفارسية على انقاض بابل المجيدة، وولادة اليونان بفعل هزيمة الفرس … هذه الحروب الكبرى هي عالمية عن حق وحقيق. لكن المؤرخين لم يعطوها صفة العالمية التي الصقوها فقط بحربين في القرن العشرين. وعندما نعرف ان الذي انتصر (الغرب) هو الذي روى ووصّف يبطل العجب ويحّل اليقين في الأذهان ان البشرية امام زمان إمبريالي متوحش تبدو امامه الامبراطوريات العربية والرومانية واليونانية كدمى الاطفال. كان واضحاً جداً أن الغرب الاوروبي والاميركي إعتبر هزيمة تركيا نصراً الهياً مسيحياً على الإسلام الذي حكم الارض مدة 1300 سنة تتجاوز ازمنة الفرس واليونان والرومان مجتمعين. إن تسمية حرب ال 14 بالكونية هي بمثابة إعلان صارخ على ولادة العصر المسيحي الخالد. ففي كتابه “نهاية التاريخ” اعلن فوكوياما أن حركة التاريخ توقفت مع الامبريالية الغربية وخاصة الاميركية، ولم يبقى شيء تفعله الدول سوى الالتحاق بالركب الغربي طوعاً او قسراً. وعلى هذا الاساس ولدت “عصبة الامم” على مبادىء ويلسون “الرسولية الالهية”، ثم نشأت بعدها كنسخة جديدة منقحة “جمعية الامم المتحدة”. وبالفعل، ادارت هاتان المنظمتان الامميتان شؤون الكوكب في ادق التفاصيل. وبدا جلياً ان العصر الاميركي سيشمل العالم والى ما لا نهاية وفقاً للشعار المكتوب على الخاتم الاعظم:
“Novus Ordo Seclorum”
“نظام العصور الجديد”. وهي آية نظمها “فيرجيل” وبشر فيها بهبوط جيل سماوي على الارض ليبدأ دورة العصور الذهبية برعاية الاله ابوللو.
في المقلب الثاني من القرن الفائت إصطدمت اميركا بالإتحاد السوفييتي الشيوعي “الملحد” وقادت ضده حرباً سميت حيناً بالحرب الثالثة وحيناً بالباردة وانتهت بإزالة هذا الاتحاد التاريخي في العام 1991. تفرغت بعد ذلك لتحطيم العدو الدهري “الاسلام” على مدى ثلاث وثلاثين سنة ليومنا. وكان ميدان المعارك غير المسبوقة في الشرق الاوسط الكبير الذي عرف بالمشرق او بلاد الشام او سوريا الكبرى .
خاضت الدولة الاميركية أكثر من مئة حرب خلال اقل من مئة سنة. ومع بدايات هذا القرن شهدنا غزو العراق وحروب افغانستان والصراع مع تركيا وإيران و”الربيع العربي” ومشروع “الفوضى الخلاقة” … وصولاً للعام 2022 حيث انطلقت شرارة الحرب الكونية الثالثة بين روسيا واوكرانيا.
يا ما احلى السوفييات امام روسيا القيصرية الجديدة بقيادة بوتين الكبير. صنع الغرب إنقلاباً في اوكرانيا وأتى الى السلطة برئيس دمية يعمل على الانضمام الى الحلف الاطلسي بهدف تفكيك روسيا الإتحادية الى دويلات على غرار ما حدث في الإتحاد اليوغسلافي البائد. هذه الخطة الجهنمية دفعت بقيصر روسيا الى حرب مواجهة لايعرف احد متى تنتهي بالطبع. وقد ارادها الغرب حرب ثالثة ثابتة لتثبيت حكمه لدهور ودهور. لكن السحر انقلب على الساحر، خاصة عندما قامت غزة بحرب خاطفة على اسرائيل ما تزال مشتعلة حتى الساعة على مدى يكاد يقارب السنة. كان العالم يعتقد قبل هذه الحرب المصيرية والمعقدة أن التقدم التكنولوجي العسكري يقدر ان يحسم الامور بوقت قصير. ولكن، تبين ان الحسم اصبح امراً مستحيلاً في يومنا، لان الجميع قد استفاد من التطور ولان الحروب لا تحسم الا على التراب وبزنود الابطال لا بالصواريخ الالكترونية. فالحرب الثانية عمرت زمن الاولى ونصفه اي ست سنوات، ولذلك اعتقد ان يكون عمر الثالثة تسع سنوات تنتهي في العام 2031. كما اعتقد بقوة ان انهيار الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد الاوروبي ومنظمة الامم المتحدة ستكون اهم النتائج في هذه الحرب العالمية الثالثة. والحديث عن نظام جديد يعمّر لدهور الداهرين بات حلم ليلة صيف عاش عمراً لم يتجاوز الخمسين عاماً.