“”وقال الرب لأبرام اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك، إلى الأرض التي أريك. فأجعلك أمةً عظيمةً، وأباركك، وأعظم اسمك، وتكون بركةً. وأبارك مباركيك، ولاعنك ألعنه.” (سفر التكوين، الإصحاح 12: 1-3).
“واجتاز أبرام في الأرض إلى مكان شكيم إلى بلوطة مورة، وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض. وظهر الرب لإبرام وقال: لنسلك أعطي هذه الأرض” (سفر التكوين، الإصحاح 12: 6-7).
“ارفع عينيك وانظر من الموضع الذي انت فيه شمالا وجنوبا وشرقا وغربا لأن جميع الأرض التي أنت ترى، لك أعطيها ولنسلك إلى الأبد. وأجعل نسلك كتراب الأرض، حتى إذا استطاع أحدٌ أن يعد تراب الأرض، فنسلك أيضاً يُعَد. قم امشِ في الأرض، طولها وعرضها، لأني لك أعطيها” (سفر التكوين، الإصحاح 13: 15-17).
“في ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام ميثاقا قائلاً: ’ لنسلك أُعطي هذه الأرض، من نهر مصر الى النهر الكبير، نهر الفرات‘” (سفر التكوين، الإصحاح 15، 18).
“واقيم عهدي بيني وبينك، وبين نسلك من بعدك في اجيالهم، عهدا ابديا، لأكون الها لك ولنسلك من بعدك. واعطي لك ولنسلك من بعدك ارض غربتك، كل ارض كنعان ملكا ابديا …” (سفر التكوين، الإصحاح 17: 8-9).
هذا العبارات ’ الإلهية ‘في كتاب التوراة أصبحت خلال 5-6 قرون الماضية ربما الاكثر تأثيرا على تاريخنا المعاصر لاستعمالها من قبل المؤمنين والمستعمرين والغزاة وغيرهم، بحرفتيها وتأويلاتها، لخدمة مصالحهم واهدافهم المختلفة. هذه الاسطر القليلة تستعملها بعض الأمم القوية التي تؤمن بالديانات الابراهيمية لتبرير إحكام سطوتها على الشعوب المستضعفة وتشريع خوض الحروب ضدها وغزوها واقتلاعها من ارضها واستبدال شعبها بشعب آخر. كذلك يعمل لها بعض المؤمنين، تحقيقاَ للإرادة الإلهية وشرطا لرجوع المسيح (أو الماشيّح) المخلص وإقامة مملكته الالفية على الأرض، ولو اختلفوا على دور الانسان في ذلك. في هذه البحث سنعطي لمحة عن تاريخ الوعد وموقف الأديان والمذاهب الابراهيمية منه وكيفية مواجهة مفاعيله السلبية على أُمتنا.
الخلفية التاريخية للوعد الإلهي
في القرن الماضي جرى مسح أركيولوجي مكثف وكامل لفلسطين ولدهشة المؤمنين بالتوراة كمصدر تاريخي موثوق، لم يجد المنقبون اي دليل أثري يُثبت حكاية التوراة عن رحلة إبراهيم من أرض أور النهرينية الى أرض كنعان وعن ترحيل العبرانيين من مصر، والتيه في سيناء(1) وغزو واحتلال ارض كنعان من شعب عبراني في العصر البرونزي (1500 – 1200 ق.م.) او أي اثر لمملكة متحدة (يهوذا والسامرة) في القرن العاشر ق.م.
المكتشفات الاثرية والعلوم الطبيعية والوثائق التاريخية تعطينا صورة عن ثقافة كنعانية واحدة مستمرة من دون انقطاع من العصر البرونزي الاخير (1500-1200 ق.م.) الى عصر الحديد (1200-600 ق.م.)(2)، وتخبرنا ان مملكتي يهودا والسامرة هي ممالك كنعانية وديانتها كانت استمرارًا طبيعيًّا لديانة عبادة الخصب الكنعانية، والآلهة التي عُبِدَتْ كانت آلهة كنعانية تقليدية (أيشيم، بت ايل، إلخ) ويهوه (القديم) هو واحد من الآلهة وكان متزوجا من الآلهة عشيرة الكنعانية. بعد ان قضى القائد البابلي نبوخذ نصّر في 587 ق.م. على مملكة يهوذا الكنعانية نهائيا (لتحالفها مع مصر) وهجّر حوالي 10 آلاف من اهلها الى بابل وكرمهم في وطنهم الجديد، احتل الفرس بقيادة قورش مدينة بابل بعد 48 عاما في 539 ق.م.
قورش اتبع سياسة ارجاع الشعوب ‘المهجرة ‘الى مسقط رأسها، التي ابتدأها آخر ملك بابلي، نابونيد، وذلك لكسب ثقة رجال الدين والنخب المحلية والمساعدة في دمجهم في النخبة الحاكمة الجديدة ليضمن استقرار حكمه ويحول دون نشوب ثورات. السياسة الفارسية لإرجاع اهل يهوذا نفذت في ثلاث حملات وشملت إثنيات مختلفة لرفض معظم اهل يهوذا الرجوع وكان آخرها في 457 ق.م. بقيادة الكاهن عزرا الكاتب الذي يعتبره الباحث فراس السواح “أبو اليهودية” في كتابه “آرام دمشق واسرائيل”. حسب السواح، عزرا أعاد صياغة الاله “يهوه” الجديد في شريعته اليهودية معتمدا على الايديولوجية الدينية الفارسية الزرادشتية المتمثلة باله السماء الاوحد، اهراموزدا، والقوانين الفارسية لإدارة الامبراطورية، والتقاليد المحلية. كذلك يستنتج السواح ان وعد ابراهيم والوعود اللاحقة “ليست الا نموذجا بدئيا للوعد الجديد الذي يقطعه إله السماء مع بقية يهوذا فيقودهم الى الأرض الموعودة، ذاتها” وقصة استعبادهم في مصر “هي نموذج بدائي لقصة سبيهم في بابل وفرعون القديم هو نبوخذ نصّر الجديد” (3).
المفاهيم اليهودية قبل وبعد الصهيونية
في الفترة بين 457 ق.م. وبداية القرن الثاني ق.م. تأسست اليهودية كما نعرفها اليوم، وبين 165-63 ق.م. قامت الدولة اليهودية الوحيدة الثابتة تاريخيا في فلسطين وعرفت بالفترة الخشم ونية الميكابية. بعد سقوط هذه الدولة وخروج اليهود من فلسطين (شلومو ساند مؤلف كتاب “اختراع الشعب اليهودي” يقول ان الطرد الروماني لليهود لم يحدث من الأصل) في القرن الأول بعد الميلاد، كان هناك محاولة بائسة العودة‘ الى ارض ‘بني إسرائيل‘ بقيادة موزس الكريتي (موسى من جزيرة كريت) الذي ادعى انه الماشيّح (المسيح) في 448. بعد ذلك ولمدة 11-12 قرن لم تحصل أي محاولة مهمة تذكر ولفهم أسباب هذه اللاعودة لا بد من القاء الضوء على تبلور المعتقدات اليهودية بعد الخروج من فلسطين.
في “موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية”(4) يعتبر الكاتب عبد الوهاب المسيري ان اليهودية تتسم بتناقض داخلي حاد وعدم تجانس كنسق ديني وكهوية يهودية ويصف هذا التناقض ب “التركيب الجيولوجي التراكمي”. في هذا المضمار، تختلف اليهودية عن المسيحية والإسلام فيوجد في هذين الديانتين حد أدنى من المفاهيم يشكل معياراً يمكن عن طريقه تفرقة المسيحي عن غير المسيحي والمسلم عن غير المسلم فلا يمكن أن يُسمِّي أحد نفسه مسيحيا “إن أنكر حادثة الصلب” ولا يمكن لأحد أن يُسمِّي نفسه مسلما “إذا أنكر وحدانية الله، وأن محمداً رسول الله، أو إذا أنكر اليوم الآخر والبعث”. اليهودية “تشبه التركيب الجيولوجي المُكون من طبقات مستقلة، تراكمت الواحدة فوق الأخرى، ولم تُلْغ أية طبقة جديدة ما قبلها. وهي طبقات تتجاور وتتزامن وتوجد معاً لكنها لا تتمازج ولا تتفاعل ولا تُلغي الواحدة منها الأخرى ولا يتم استيعابها في إطار مرجعي واحد. وقد سُمّيت كل هذه الطبقات ب “الدين اليهودي”.
احدى الطبقات المستقلة هي الاتجاه التوحيدي او شبه التوحيدي الذي يؤمن بإله واحد يتجاوز المادة، وطبقة أخرى هي الاتجاه ’ الحلولي الكموني ‘بمعنى أن الإله الخالق يحل في مخلوقاته ويَكْمُنْ بها ويتوحد مع الانسان والطبيعة، بحيث “يصبح العالم مكونا من جوهر واحد”. في “الحلولية الكمونية اليهودية” تحول الإنسان إلى الشعب اليهودي، والطبيعة إلى الأرض اليهودية (أرض الميعاد)، والإله إلى المبدأ او الجوهر او الروح الواحدة التي تحل فيهما معاً، وينجم عن هذا الحلول الإلهي بان “أصبح الشعب مقدَّساً وأصبحت الأرض هي الأخرى مقدَّسة”.
يتابع الدكتور المسيري أن “ترجمات العهد القديم ومخطوطات البحر الميت تشكل شواهد على التناقض بين المصدر الإلوهيمي (التوحيدي أو شبه التوحيدي) والمصدر اليهوي (الحلولي)”. كذلك الامر في “التلمود الذي يظهر من جهة “إيمان بالمساواة بين البشر نابعة من درجة عالية من التوحيد” ومن جهة أخرى “عنصرية شرسة نابعة من رؤية حلوليه موغلة في الحلول والكمون” ودخلت عليها عناصر وثنية حلولية قومية تخصيصية عديدة مثل “فكرة الشعب المختار المرتبط بأرض مقدَّسة والمتمركز حول ذاته، وفكرة الميثاق بين الإله وشعب بعينه”. (4-أ)
يتبع
المصادر:
الحلقة الأولى
(1) Bible, as History, flunks New Archeology Tests;
(2) ـتأسيس اليهودية السياسي – راجي سعد
(3) كتاب “آرام دمشق واسرائيل في التاريخ والتاريخ التوراتي”، ص 286 -فراس السواح
(4) موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية – دكتور عبد الوهاب المسيري
4-أ المجلد 5، الجزء 1، الباب 2: الإشكالية الحلولية اليهودية
4-ب المجلد 5، الجزء 2، الباب 6: اليهودية الحاخامية (التلمودية)
4-ج المجلد 5، الجزء 3، الباب 7: اليهودية المحافطة
4-د المجلد 5: الجزء 3، الباب 6: اليهودية الأرثودكسية