يبدو أن الحلم الكردي في الانفصال وتشكيل دولة كردية شمال وشمال شرق الفرات بدء في الأفول ، ولا يخفى على أحد بأن المشروع الانفصالي الكردي حلم يدغدغ مشاعر الأكراد منذ عقود ، وبعيدا عما يدعون من امتلاكهم للأرض وقوميتهم المزعومة البعيدة عن المفهوم العلمي الاجتماعي للمسألة القومية ، فعوامل نشوء الأمة والمفهوم القومي كما حددها انطون سعادة في كتاب نشوء الأمم والمحاضرات العشر، تلخصت بما يلي : القومية لا تقوم على مفهوم عنصري أو أثني أو ديني وانما تقوم على تفاعل مكونات الأمة ضمن مصالح وحقوق ومصير موحد ومشترك ، والتي تعيش ضمن قطر معين محدد جغرافيا بعوامل طبيعية يكسبها تفاعلها معه وبه خصائص ومزايا معينة تميزها عن غيرها من الجماعات البشرية ، فهذا المكون الكردي الأثني وفي سياق تفاعله الحاصل مع باقي أثنيات المجتمع السوري والأرض السورية ، أصبح جزء لا يتجزأ من مكونات هذا المجتمع والأمة السورية ، ومع ذلك فقد لعب الغرب والاستعمار منذ عقود طويلة دورا” كبيرا” في تأجيج مشاعر الانعزالية لدى الأكراد والعمل على دفعهم لمحاولة الانفصال وتحريك المشاعر القومية الوهمية الكاذبة والزائفة إمعانا” في تفتيت الأمة السورية واضعافها وخلق الصراعات وتفريغها من تنوعها الأثني والثقافي ، عبر تهجير باقي المكونات الاثنية الثقافية من مناطق تواجدها ومن مناطق تواجد الأكراد .
ومع بدء الأزمة في الشام عمل الغرب وعلى رأسهم أمريكا وبريطانيا على دعم تشكيل هذا الكيان الكردي الانفصالي بالمال والسلاح والأفراد ، ليصبح شرق وشمال الفرات مناطق نفوذ كردية وتشكيل ما سمي لاحقا ب ( قسد ) وهي اختصار لما اطلق عليه ( قوات سوريا الديموقراطية ) والتي تتشكل بنسبتها العظمى من الأكراد بالإضافة الى بعض المكونات من العشائر العربية والتي ارتضت الانضمام لهذه القوات مدفوعة بالتهديد الأمريكي وبالترغيب أيضا وبتأمين بعض المصالح العشائرية بالإضافة لبعض السريان والآشور،هذا المشروع الانفصالي في حال تحقيقه سيعمل على تقسيم جديد لكيانات الأمة السورية والمجتمع السوري، فيزداد التفسخ ضمن المجتمع الواحد.
ولكن ومع بدء الحرب الروسية الأكرانية واندحار القوات الأكرانية السريع أمام الجيش الروسي والمحاولة الأمريكية الغربية لتوسيع حلف الناتو وضم العديد من الدول لهذا الحلف والحاجة الماسة للدولة التركية من قبل الغرب ، وتخوف الغرب من انحيازها الى حلف البريكس المتزعم من قبل روسيا والصين ، ومحاولة هذا الحلف تقديم مغريات للدولة التركية للانضمام له ، اضافة الى التخوف التركي من تشكيل دولة كردية في الجنوب التركي ، والدعم الأمريكي الكبير لهذا الانفصال ، نتج عن ذلك خلاف أمريكي تركي وصل الى حد القطيعة ما بين الطرفين ، ومن ناحية أخرى تعتبر تركيا عضوا ً أساس في حلف الناتو وتمتلك أكبر وأهم قواعد حلف الناتو العسكرية وهي قاعدة أنجرك ، ومع رغبة حلف الناتو في التوسع طلبت السويد الإنضمام الى هذا الحلف بعد أن كانت على الحياد فكان الموقف التركي برفض هذا الطلب مما اضطر حلف الناتو وعلى رأسهم أمريكا الى تقديم تطمينات الى الجانب التركي بالجلوس الى طاولة التفاوض وتقديم التنازلات مقابل الموافقة التركية ، وفي محاولة لتجاوز هذا الخلاف التركي الأمريكي ، فقد اجتمع في آذار الماضي من هذا العام 2024 في واشنطن كل من وزير الخارجية التركي حقان فيدان ورئيس الاستخبارات ابراهيم كالين ولمدة يومين على التوالي وتم مناقشة الطلب الصريح التركي للأمريكان ايقاف الدعم اللامحدود ل ( قسد ) لما لذلك من تأثير على الأمن القومي التركي ، والذي من الممكن أن يؤدي في حال تشكيل الدولة الكردية الى مطالبة أكراد تركيا بالأنفصال وهذا ما لن توافق عليه تركيا والذي سوف يزيد من الصراعات التركية الكردية وتعميق الخلاف والصدام العسكري في المناطق الكردية التركية ، وتم الطلب رسمياً من قبل تركيا بفك الارتباط الأمريكي الكردي بشكل نهائي ، والذي تم الموافقة عليه من قبل الأمريكان بشكل غير مباشر بالإضافة لعدم تدخل الأمريكان في حال تم التصعيد العسكري وتوجيه ضربة عسكرية للأكراد، كل ذلك تمت الموافقة عليه أمريكياً، يبدو بعد هذا الاتفاق التركي الأمريكي بالنسبة للأكراد( أن حساب الحقل ليس كحساب البيدر ) ، وقد تجلى هذا الاتفاق على الأرض حين قصفت القوات التركية مدعومة بالطائرات والمدفعية مستودعات الذخيرة التابعة لقسد ومقرات القيادة ومصافي ومستودعات النفط ومراكز التدريب والبنى التحتية ، ورغم الطلب الكردي المتكرر من الأمريكان التدخل للجم جماح تركيا ، إلى أن هذا الطلب قوبل بالتجاهل التام ، وأيضا” فقد دار الصراع في السابع من شهر آب الحالي ما بين قسد وبعض من قوات العشائر والدفاع الوطني بزعامة ابراهيم الهفل أحد شيوخ العشائر، مما أدى الى تحرير أكثر من خمس بلدات بمنطقة دير الزور شرق الفرات ، وقد قامت هذه القوات أيضا بمهاجمة حقل العمر النفطي والذي يحتوي على قاعدة امريكية عسكرية هي الأكبر في شرق الفرات ، فلم تصطدم القوات الأمريكية مع هذه القوات مطلقا” ،وانما بقيت على الحياد ، هذه القوات الممولة بالسلاح والتدريب من قبل الجيش الشامي وحلفائه استطاعت خلال ساعات معدودة السيطرة على بعض البلدات ومهاجمة المقرات العسكرية لقوات قسد مدعومة بمدفعية الجيش الشامي المتواجد غرب الفرات ، وقد استدعت قسد قواتها المتواجدة بالرقة ورأس العين في محاولة لاستعادة المناطق ولكن دون جدوى ، فقامت بفرض حظر للتجوال وقطعت الماء والكهرباء والغذاء عن العديد من المدن الرئيسية كمدينة الحسكة والقامشلي والعديد من البلدات وخطف العديد من العاملين ضمن المربع الأمني التابع للحكومة الشامية في مدينة الحسكة ، يدل ذلك على أن القوات الأمريكية بدأت بالفعل بالتخلي عن حليفها الكردي ، مما زاد من الشكوك الكردية بأن حليفهم الأمريكي وكعادته سوف يتخلى عنهم كما تخلى عن العديد من حلفائه بالعالم سابقا” ، بالإضافة الى الرفض الأمريكي لإجراء الانتخابات الادارية الكردية والتي كان من المقرر اجرائها في شهر حزيران من هذا العام وتم تاجيلها الى شهر آب ومن ثم تم إلغاءها بحجة أن لا جدوى منها ، هذه الانتخابات تم تحديدها على خلفية التقسيمات الادارية الجديدة فقد أصدرت (الإدارة الذاتية الكردية) ما سمته قانون التقسيمات الإدارية في مناطق سيطرتها شمال وشمال شرقي الفرات ، في الأول من شهر أيار من هذا العام ، وبناء على القانون الجديد فإن هذه المناطق باتت تعتبر إقليماً واحداً مقسماً إلى 8 مقاطعات رئيسية، وهي( الجزيرة ، دير الزور، الرقة ، الفرات، منبج ، عفرين والشهباء، والطبقة) وهي بالطبع بداية لتشكيل الدولة الانفصالية الكردية والاعتراف بشرعيتها دوليا من خلال تقديم هذه الهيكلية الإدارية منتخبة من المكون السكاني في المنطقة والذي يضم بالاضافة الى الاكراد العشائر العربية والسريان والآشوريين ، اضافة الى تقديم صورة إيجابية حول الإصلاحات الادارية أمام المجتمع الدولي بعد اتهامها بتهميش جميع مكونات المنطقة من العرب والسريان ونهب واستغلال ثروات المنطقة من نفط وغاز وغذاء لصالح الأكراد ، دون الالتفات لمصالح ومتطلبات باقي مكونات المنطقة من غير الأكراد .
نتيجة لهذا الهلع الكردي من التخلي الأمريكي توجه الأكراد لمحاولة عقد اتفاقيات كردية روسية بمشاركة الحكومة الشامية وذلك حماية لهم من مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي من شرق الفرات والذي يتم الحديث عنه من قبل العديد من المسؤولين الأمريكان وذلك على خلفية بدء تنفيذ عمليات نوعية عسكرية وتوجيه العديد من الضربات الصاروخية للقواعد الأمريكية بالمنطقة ، رغم محاولة التعتيم الأمريكي على هذه العمليات ، بالإضافة للتفاوض الأمريكي الشامي على اطلاق سراح ضابط المخابرات الأمريكي (أوستن تايس) المعتقل في سوريا منذ العام 2012 والذي تدعي أمريكا أنه صحفي أمريكي ، فالإنسحاب الأمريكي هو جزء من هذه الصفقة مع الحكومة الشامية ، ففي حال حدوث مثل هكذا انسحاب وهو أصبح مؤكدا” سوف تقع القوات الكردية بين المطرقة والسندان ، فكان الاتفاق الكردي الروسي بالتعاون مع الحكومة الشامية والذي يتضمن بالبداية تشكيل نقاط عسكرية مشتركة كردية روسية شامية بالاضافة الى ضبط حركة القوات الكردية بالمنطقة تجهيزا لانضمام هذه القوات بعد رحيل الأمريكان الى فيلق من فيالق الجيش الشامي وتسليم المنطقة الى الجيش والحكومة الشامية مع اتفاق يضمن للأكراد حقوقهم الثقافية واللغوية بالاضافة لمشاركتهم في بعض الشؤون الادارية . ولكن ما زالت عملية التفاوض الكردي الروسي الشامي تتعرض للتعثر وذلك بضغط أمريكي غربي سلبي وضغط تركي روسي ايراني ايجابي، والأيام القادمة ستكشف لنا جديد الأحداث ولكن من الواضح بأن قسد والمشروع الكردي الى زوال .
وبعودة المناطق المسيطر عليها من قبل القوات الأمريكية وقوات قسد الى الشام والتي تعتبر من أهم مناطق الغذاء والطاقة سوف يبدأ الوضع المعيشي الاقتصادي بالتعافي ، ولن يطول ليتحقق .