ندوة منتدى شملان الثقافي عن “مذكرات محمد البعلبكي مع أنطون سعادة “، د. جهاد العقل يتحدث عن البعلبكي الهاوي لسعادة والرجل الثابت المؤمن

بمناسبة صدور كتاب “مذكرات محمد البعلبكي مع أنطون سعادة” إعداد وتقديم سليمان بختي، أقام منتدى شملان الثقافي، ندوة استهلتها المحامية اليسا صليبا بكلمة ترحيبية وقدمت لها الاستاذة زينة حمزة  وشارك فيها المؤلف ونائب نقيب المحررين صلاح تقي الدين وفاروق أبو جودة ، وكانت المداخلة الآتية للدكتور جهاد نصري العقل :استهل كلمته بالتحية إلى نبض أرواح الشهداء،  فهم هم القادة والقدر والقضاء.

تصنّف الصحافة في فروعها المكتوبة والمسموعة والمرئية على أنّها السلطة الرابعة في الدولة، إلا أنها في الواقع هي السلطة الأقوى، إذ تقوم مهمتها على صناعة  الرأي العام الركن الأساسي في كيان الدولة، والتأثير به ودفعه في اتجاه تأييد الخيارات والاتجاهات والسياسات التي ترسمها له، وفي مقدمتها انتقاء أعضاء ممثلي الشعب الى السلطة التشريعية،  على أساس هذه القاعدة يكون الأمين العلامة النقيب محمد البعلبكي  (1921- 2017) الرجل الأقوى، في موازين قوى السلطة، طيلة 32 عاما (1982-2014) من تربعه على كرسي نقابة الصحافة، من خلال انتخابه بالاجماع على امتداد سبع دورات متتالية، وهو الصحافي المخضرم المتمرس على امتداد 71 عاما منذ سنة 1943 ، حيث أعطى مفهوم “مهنة البحث عن الحقائق”، طبعا بما يترتّب عليها من متاعب، قيمة الرسالة النهضوية، التي قال فيها سعادة :”صحافة كلّ أمة مقياس ارتقائها ومظهر شعورها، وعنوان مجدها، فهي المرآة التي ترى بها الأمة نفسها وتنعكس عنها صورتها،  ويتجلى فيها تمدّنها كما هو، لا كما يرسمه الوهم، أو يصوره الخيال، أجل إنّ الصحافة الشعب مصغرا، فهي لسان حاله، ومحط رحاله، ومعقد آماله، ومهبط وحيّ رجاله” .

العلامة محمد البعلبكي، كثيرة هي صفات العظمة التي تميّز بها، فهو شخصية مثقفة، قويّة، محببة، مرحة ومعقدنة، ضليع في اللغة العربية، خطيب لامع، محدث لبق وصحافي رائد، بدأ محررا في “العروة”والديار” و”الصياد” وانتهى إلى تأسيس مطبوعتي “كلّ شيء” و”صدى لبنان”، مثبتا في جميع مراحل حياته وتبدلاته على أنّه يبحث عن الحقيقة، وقد اهتدى إليها في أنوار النهضة القومية الاجتماعية. محمد البعلبكي بدأ في “كلية المقاصد الاسلامية،”يغرف من الاسلام معرفة عقلانية ولغوية وانسانية عميقة مكّنته من الفصاحة ورجاحة النظر في الأشياء ونبذ التفرقة”ص13و14. من هذه الكلية الاسلامية الدينية، انطلق، وحلّق، وما لبث أن حطّ رحاله في مدرسة سعادة القومية الاجتماعية بأبعادها الفلسفية والعلمية.

محمد البعلبكي من معلم فذّ في الكلية السورية (الجامعة الأميركية) لرجالات كبار، أمثال البطرك هزيم والصحفي غسان تويني ونجله الشهيد جبران والمفكر منح الصلح والحقوقي بهيج طباره، والعميد أحمد الحاج وغيرهم إلى تلميذ متواضع رسا به مركبه على شاطىء أمان أنطون سعادة يغرف من درّره معاني البطولة والرجولة والمثل العليا. محمد البعلبكي هجر “حزب النداء القومي”، العروبي ونزح عن صحب وقادة ورجالات فكر أمثال كاظم الصلح وتقي الدين الصلح ومحمد شقير وسواهم، ليجد نفسه مؤمنا بعقيدة سعادة، ومنتميا إلى حزب نهضته، مؤمنا بعروبته الحقيقية الواقعية. فما يا تُرى”ما الذي استهوى محمد البعلبكي بـ أنطون سعادة؟”، وهو هو السؤال ذاته الذي طرحه محمد يوسف حمود على نفسه وتوّجه في مقالة وجدانية، وأنت تقرأها لا تعلم لأي من المحمدين هي لبعلبكي أم لحمود، يقول فيها الأخير:”من البسطة أنا، نشأة وجوا ومناخا، وخريج المقاصد تربية وتلقينا، ورثت عن أبي وأمي وعائلتي ما ورثه أخي، فكان منه الشيخ بكل ما في العمامة والجبة من معنى والتزام. فما الذي شدني إلى ابن خليل سعادة، ربيب جوار الدير في ضهور الشوير، ما الذي استهوى محمدا في أنطون ؟ ولماذا اتخذت العقيدة القومية الاجتماعية ايمانا أمارسه مبادىء ومناقب وانتظاما؟”.

المحمدان : حمود والبعلبكي، كانا الجواب؛ معرفة وإيمانا ونضالا، معا انطلقا من نفس البيئة البروتية المتحفظة، ومن المدرسة الدينية ذاتها، والمحمدان استهواهما  فكر أنطون جار الدير في الشوير، فالتزما بتعاليم مدرسته وكانا في طليعة المتنورين من القادة في الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذين حرّضوا عزائم الناس على الانخراط في صفوف النهضة القومية الاجتماعية، طارحين الصوت: “لماذا لا تؤمن يا أخي بهذه العقيدة التي تدعوك إلى الولاء القومي لأمتك ووطنك، ولاء الانسان الاجتماعي لمجتمعه الانساني، ولا تشترط عليك إلا التخلي عن العصبيات العائلية والمحلية والقبلية والطبقية والعنصرية والمذهبية، لتحل محلها كلّها فيك العصبية القومية الاجتماعية الانسانية، بسماحها وأخوتها ومحبتها الشاملة، عصبية المواطن الانسان الواحد لمتحده الوطني الانساني الوحيد” .حمود

كتاب “ذكريات محمد البعلبكي مع أنطون سعادة، “لمؤلفه الصحفي سليمان بختي يلقي الضوء من خلال مضمونه الموزع بين المقدمة ومحاضرة البعلبكي ومقابلة الصحفي رؤوف قبيسي والوثائق المرفقة خصوصا محاضرة النقيب في الجامعة اليسوعية: “عرض موجز للحزب القومي الاجتماعي” في سلسلة التعريف بأحزاب لبنان، قيمة مضافة على ما تقدم لتعطي الجواب على السؤال: ما استهوى محمد البعلبكي بأنطون سعادة؟

 البعلبكي، الذي،على حدّ قوله، اكتشف شخصية حضرة الزعيم من المقابلة الأولى، أثناء حضوره بعض المحاضرات العشر عام 1948، ومن بعدها من خلال مناقشة مقالاته قبل نشرها  في جريدة “كلّ شيء” ، وأخيرا في الرابع من تموز 1949 عندما أقسم اليمين على يدّ حضرة الزعيم في دمشق قبل أربعة أيام من اغتيال سعادة . فبين لقائه الأول بـحضرة الزعيم والتعرف على شخصيته وعقيدته، وانتمائه في فترة زمنية قصيرة، لا تتجاوز السنة والنصف، كانت كفيلة أن يتخلى البعلبكي عن العمامة والجبة والعصبيات على مختلف تسمياتها، وعن انتسابه الى “حزب النداء القومي” ، وينتمي إلى حزب سعادة عن معرفة عميقة، وايمان صلب، وممارسة نضالية سواء عن اشهار ايمانه القومي الاجتماعي قولا وفعلا، أو عن طريق تحمّل المسؤوليات الادارية ، وكان أخرها رئاسة المجلس الأعلى، خلال المحاولة الانقلابية حيث اعتقل وسجن ونكل به وحكم بالاعدام وشمله العفو العام، وأبدى شجاعة وصلابة بوقفة عزّ  في مرافعته أمام المحكمة العسكرية  في دفاعه عن الحزب وعقيدته وعن اشتراكه في الانقلاب وعن مسؤوليته القيادية في كلّ ما نُسب إليه .

ونتوقف عند السؤالين اللذين طرحهما الصحفي رؤوف قبيسي على البعلبكي في مقابلته، المنشورة في هذا الكتاب، في 20 تموز 2013.   

الأول ويختصر فيه الأمين البعلبكي رأيه في سعادة.  السؤال الثاني هو إجابته على من أمر باعدام سعادة؟

يستند البعلبكي في هذه الرواية، المنشورة في الكتاب ص49ـ50، على ما سمعه من الوزير حبيب أبو شهلا،

مما قاله هذا الأخير الوزير يؤكد بدون أدنى شكّ، ومن فمّه يدان، على أنّه كان رأس الحربة في التحريض على الاسراع في توقيع حكم الاعدام على سعادة.

السؤال: لماذا أصرّ أبو شهلا في الاسراع على توقيع حكم الاعدام، الجواب لأنّه كان يشغل وظيفة المحامي في شركة التابلاين ولأنّ سعادة كشف خفايا اتفاقية التابلاين (الموقعة بين بيروت ودمشق والرياض وواشنطن) وخطرها على مصلحة الأمة (الجيل الجديد، 19 ايار 1949)، وهذا ما يهّدد معيشة المحامي المنتفع وارتباطته المشبوهة. ولكن أبو شهلا أصاب في روايته للبعلبكي عندما كشف عن دور حسني الزنيم وملكي مصر والسعودية في اصرارهم على اعدام سعادة قبل الفجر، أي خلال 24 ساعة من اعتقاله.

أما عن حصر دور الكتائب، فقط، في حادثة الجميزة، فهذا أمر بحاجة إلى اعادة نظر وتصحيح. لم تكن حادثة الجميزة التي افتعلتها الكتائب، كما هو متداول، بنت ساعتها، بل تمّ التحضير لها لتكون الشرارة الأولى في خطة تصفية سعادة، حضّر لها حسني الزنيم عن طريق استمالة بيار الجميل واستضافته وتحريضه على سعادة. في هذا الإطار، ذكر الصحفي وليد عوض في كتابه “بشارة الخوري فارس الموارنة العرب”ج2، ص243: “حسني الزنيم دخل في اللعبة اللبنانية، أظهر الودّ تجاه حزب الكتائب برئاسة الشيخ بيار الجميّل وحزب النجادة برئاسة أنيس الصغير وقطبية الرجل القويّ عدنان الحكيم.

ملاحظتي حول الكتاب: أولا: الكتاب محاولة جيدة في توثيق الوقائع لأجل قيام سردية متكاملة لتلك الحقبة كما أشار المؤلف. ولكن تعزيزا للكتاب كان من الأفضل، إضافة مرافعة محمد البعلبكي أمام المحكمة العسكرية إليه،  وتضمينه مجموعة من المقابلات مع شخصيات عاصرت النقيب البعلبكي.كما أقترح تشكيل لجتة تعمل على جمع مذكرات الذين عاصروا سعادة ودرسها وانشاء سردية متكاملة تتناول رسم شخصية أنطون سعادة كما دعا للعمل على إصدار كتيب يتضمّن أعمال هذه الندوة التكريمية للأمين النقيب محمد البعلبكي، مع بذل الجهد لطباعة مذكراته وهي حسب ما ذكر الأستاذ بختي تقع في 6 مجلدات، وهي ثروة فكرية يجب تعميمها .

وأختم متحدثا عن علاقته بالأمين النقيب محمد البعلبكي .  التقيته في مطلع التسعينات عند انتسابه إلى نقابة الصحافة ، بصفته صاحب امتياز مجلة غير سياسية “صدى العرزال”، وما رافق تلك المعرفة من مودة ومحبة كما عن تعمق  علاقته به،أثر اصداره الجزءين الأول والثاني من موسوعة صحافة الحركة القومية الاجتماعية في 75 عاما ب في مئوية ولادة سعادة.

تحية اعتزاز وفخر إلى روحه التي ترفرف وتصرخ وتهيب بنا آمنوا واعملوا تنتصروا .

الشكر والتقدير للرفيق الصحفي نبيل المقدم على استضافتنا في هذا المنتدى، وكلّ التوفيق له في متابعة هذه النشاطات الثقافية، المؤكدة أنّ : “المجتمع معرفة والمعرفة قوّة” .

شملان في 9-8-2024