حرب الإستنزاف… الرد الأمثل

انعقد المؤتمر الصهيوني الأول، في مدينة بازل السويسرية سنة 1897، ودعا إلى إقامة “وطن قومي لليهود” في فلسطين، أو في الإرجنتين، أو أوغندا.

ومع ذلك، فإن ابتلاء وطننا العربي بالسرطان الصهيوني المعروف بإسم “اسرائيل” لم يبدأ بذلك المؤتمر، بل بنظير له عُقد بعد ثماني سنوات. المقصود، مؤتمر كامبل في لندن (1905-1907)، بمشاركة ست دول استعمارية هي بالإضافة إلى بريطانيا المستضيفة، هولندا، وفرنسا، وبلجيكا، واسبانيا، وايطاليا. قرر المؤتمرون المتآمرون بصلف وتكالب استعماري، تمزيق وطننا العربي من أجل إبقائه فريسة للتخلف والضعف، لتيسير نهب ثرواته. وهذا غير ممكن من دون تمزيقنا إلى دويلات ضعيفة، بالإضافة إلى تجهيل إنساننا وقمعه وإفقاره بواسطة أنظمة عسكريتارية تابعة، ثم إغراقه بالفتن واستنزاف شعوبه بالإضطرابات وانهاكها بالحروب. ولا سبيل لتحقيق ذلك سوى زرع كيان غريب، كما قالوا في وثائقهم بالحرف، عن المنطقة في فلسطين، بحكم موقعها الجيواستراتيجي. كيانٌ شاذ في تكوينه وفي ممارساته، وغير طبيعي في سياساته. ولقد أكد الكيان اللقيط ورعاته، على مدار 76 سنة، أن أهدافه الحقيقية هي تنفيذ مقررات مؤتمر كامبل بحرفها وحذافيرها. ونحن نعتقد أن أمة مُعتدى عليها منذ قرنٍ من الزمان ونيف، آن أوان تحركها بوعي وعزيمة للتخلص من عدو يمثل خطرًا وجوديا لها. أمم كثيرة ابتليت بأعداء أقوى من الكيان الشاذ اللقيط في الموارد البشرية والمادية، ومع ذلك لم تنتظر من الزمان ما يذرف على القرن لتوجه الضربة القاضية لعدوها متأبية على ذُل الإنكسار والنكوص أمامه. فقد قدمت شعوب الاتحاد السوفييتي السابق 28 مليون انسان، خلال سنوات الحرب العالمية الست، لتحرير وطنها من الوحش النازي. الفيتناميون قارعوا أميركا ذاتها راعية الكيان الشاذ اللقيط في مواجهات مباشرة استغرقت عشرين عامًا(1955-1975)، وألحقوا بها هزيمة مُذلَّة ما يزال الوعي الجمعي في بلاد اليانكي يعاني من تداعياتها حتى اليوم.

ولأمتنا تاريخ مُشرف في مقاومة الاستعمار الأجنبي، والاستعداد للتضحية في سبيل تحرير الأوطان.

لقد أكد طوفان الأقصى، وأثبتت غزة بمقاومتها البطلة وصمودها الأسطوري، أن الكيان الشاذ اللقيط أضعف بكثير مما يتوهم بعضنا. بعد الطوفان، فرَّ من الكيان أكثر من نصف مليون مستعمر اسرائيلي بلا عودة، وفق مصادر رصينة. قطاع الزراعة لدى الكيان شبه منهار، وقطاع السياحة ليس أفضل حالًا. ولا ننسى عشرات الآلاف من تجمعاته الاستعمارية الهاربين من مستعمرات غلاف غزة وشمال فلسطين، للمرة الأولى في تاريخ الصراع الوجودي معه. أزمات الكيان تتعاظم، وانقساماته الداخلية تتعمق، والقلق الوجودي المسيطر على وعيه الجمعي غير مسبوق. ومن قال أن التاجر الأميركي يمكن أن يستمر بدعم الكيان، إذا شعر أنه بات عبئًا على مصالحه في المنطقة العربية؟! ويخطيء من يعتقد أن ذاك التاجر على استعداد لمواجهة أمة عقدت العزم على كسر شوكة عدوها التاريخي، وخاصة مع بروز قوى دولية صاعدة تتحدى الهيمنة الأميركية.

نعلم أن كثيرين بيننا لا يطربهم هذا الخطاب، ويرون إلى هذا النحو من التفكير بقدر غير قليل من الإنكار والإزورار عنه. وهناك من سيسارع إلى اتهامنا بالتحليق في فضاء الخيال غير القابل للتحقق على أرض الواقع، وخاصة بوجود أنظمة يرتبط مصيرها بوجود الكيان الشاذ اللقيط. 

ردنا على هؤلاء نحصره في ثلاثة فروع بإيجاز، أولها، أن صراعنا مع الكيان من أيِّ النواحي أتيناه هو صراع وجود. ثانيًا، نعتقد أن قرنًا ويزيد من الصراع مع المشروع الصهيوني، أثبت أن لا استقرار في منطقتنا ولا ازدهار، ولن نسلك طريق التقدم والعودة إلى التاريخ بوجود الكيان الشاذ اللقيط في فلسطين. هذه حقيقة لا مجال لإنكارها والهروب من مواجهتها حتى بالنسبة للأنظمة “الصديقة” لزارعي الكيان في فلسطين ورعاته. ثالثًا، يفتقر الكيان الشاذ اللقيط في صراعه معنا إلى الحدود الدنيا من القيم وأخلاقيات الحروب. ولا غرابة في ذلك، بالنسبة لكيان مدجج بكمٍّ مهول من أحقاد التاريخ وعُقَدِ النقص، ومُذَخَّرٌ وعيه بأساطير التوراة وخرافاتها. كيان كهذا، من الغباء أو التخاذل التفكير بإقامة “سلام عادل وشامل” معه أصلًا، فهو لم يُزرع في فلسطين لهذه الغاية. وفي مسرحية مدريد “للسلام” ومآلاتها، الدليل الأدل.

 لا خيار إذن سوى المقاومة وأنجع أساليبها في ظروفنا الراهنة، حرب استنزاف طويلة الأمد، الكيان لا يحتملها ورعاته لن يطيقوها. أما كيف، فهناك من هو أقدر منا على رسم الصورة وتحديد معالم الطريق وقرع الجرس.