جنون الألفية بين المسيحية واليهودية

مع اتساع الأزمات الدولية وما يرافقها من ظاهرة النبوءات والعرّافين، تتسع الظواهر الشعبية

الخاصة بالتأويلات الدينية ومنها حكاية الألفية التي تحاول أوساط يهودية توظيفها لبناء علاقات

عضوية مع المسيحية لغايات سياسية بالدرجة الأولى.

إذا كان التاريخ عند اليهودية سلسلة من التجليات الالهية السلبية والايجابية على اليهود، وحالات للعودة الدورية تؤكد ان الكارثة لا تعني النهاية، بل بداية جديدة: فذلك من أجل إن يتيسر للعبرانيين “تحمل عبء التاريخ”، أي تحمل الهزائم العسكرية والقهر ‏السياسي، فراحوا يفسرون الاحداث المعاصرة لهم تفسيراً يستند إلى اسطورة خلق الكون والموغلة في القدم. وبالطبع، تقضي الاسطورة انتصار التنين ‏انتصاراً مؤقتاً. لكنها تؤكد، مقتل التنين، من قبل ملك – مسيح.

هكذا منح خيالهم ملوك الوثنيين ملامح التنين، ‏كما ورد وصف لبومبي في مزامير سليمان (19: 29) ‏وكذلك تحدث ارميا عن نبوخد نصر (51: 34).

أما التاريخ عند المسيحيين فينبعث بواسطة كل مؤمن بمفرده. يقول القديس اوغسطين: “لا أحد يستطيع معرفة اللحظة التي يقرر فيها الله وضع حد للتاريخ، فالمدينة الابدية الوحيدة هي مدينة الله.

فالمسيح لم يمت من أجل خطايانا إلا مرة واحدة، فالموت ليس حدثاً قابلاً للتكرار.

ولا يعبر هذا الخوف بينهما عن دواعي ايديولوجية وحسب، بل هو تعبير عن نفي حقبة اجتماعية لحقبة اخرى محمولاً بتصورات ايديولوجية عنوانها الالفية.

فليس نفي المسيحية للالفية مجرد تباين آخر ‏بينهما بل نفي فلسفة العمل (قايين المزارع ثم الرأسمالي) لفلسفة حقبة آفلة هي حقبة المشاعية الرعوية حقبة هابيل وامتداده الربوي. هكذا، اخذت فلسفة العمل المسيحية فكرة الزمان الدائري المحدود وإلغاء العود الابدي او فكرة التقدم اللامتناهي عند ليبتتز فيما اخذت فلسفة الرعي – المرابي اليهودية فكرة الزمان التكراري معبراً عنها بالالفية.

أما ما كتب عن الالفية المسيحية، فهو إستثنائي ويتصل بالنشاطات التي خصصها التلاميذ للدعوة في أوساط اليهود بوصفهم خرافاً ضالة (متى 10: 1-5).

كما ان الالفية المشار اليها في متى ولوقا ألفية مختلفة عن ألفية العهد القديم، وتتعامل مع اسرائيل كشهادة قربانية للابتعاث المسيحي وتتجاوز القراءات المسيحية الرمزية للعهد القديم واليهودية إلى الفية الشهادة القربانية إلى نفيها بالمطلق.

فمجيء المسيح يعني نهاية الناموس (الشريعة) وبداية النعمة، أي نهاية اليهودية وبداية المسيحية.

في روميه (6: 4) لن تسودكم الخطيئة لانكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة.

وفي انجيل يوحنا (1: 17) الناموس بموسى اعطي والنعمة والحق في يسوع المسيح صارً.

وفي رسالة بولس إلى اهل غلاطية انكم ان اختننتم فلن ينفعكم المسيح شيئاً اما نحن من الروح وبالايمان ننتظر البر المرتجى.

وبعد ان اصبحت المسيحية الدين الرسمي لروما شجبت العقيدة الألفية واعتبرت هرطقة. وبانتصار الكنيسة تحققت ملكوت السماء على الأرض وتحقق دمار العالم القديم.

ولم يلق من العهد القديم إلا ما يخدم القراءة المسيحية الرمزية لهذا العهد، من نمط اعتبار الخروج والدخول في أرض هو الخروج من العماء والدخول في الحياة ومن نمط اعتبار الهيكل الموعود هيكل الناس وليس هيكل سليمان، واعتبار الأرض الموعودة حقل تجربة روحية حسب قول بولس (61) ‏آباؤكم لم يدخلوا الموعد، أي ملكوت الله.

وكذلك اعتبار المسيح ملكا روحياً ومملكته هي مملكة الله وليس ملكا دنيويا، مملكته مملكة داود.

وهو ما يفسر دخول المسيح اورشليم راكباً على حمار صغير ليظهر تواضعه،‏ ليس كملك كما أراد اليهود، وكذلك يوم دخوله عيد فصح اليهود ليظهر ‏الغاء القربان الحيواني واستبداله بالقربان البشري الذي هو المسيح نفسه.

وقد غاب عن مهندسي وضع فكرة البعث الاسرائيلي في النطاق الالفي المسيحي؛ انه حيث تريد الصهيونية تحويل المسيح إلى يهودي (ملك اليهود) فإن الالفية تتحدث عن نفي المشروع الاسرائيلي برمته حيث ينتهي التاريخ الهيغلي المسيحي بعيدا عن اسوار اريحا وخارج الذاكرة المكابية.

ان الغائية في الالفية كما في الهيغلية كما في فكرة نهاية التاريخ فكرة ذوبان لا تستدعي نوحاً إلا لتنفيه على البر من جديد في رحلة الخطيئة الدائمة ولا تستدعي اسرائيل كمتعين الا لتنفيها.

أما بشأن الشق الآخر من التوليفة الصهيونية التى ربطت بين تأبيد اسرائيل وتأبيد الرأسمالية، فلا بد من توضيح بعض الالتباسات بشأن هذه الفكرة ومساجلات ماركس مع بوير يصددها والتي حاول اليسار الصهيوني الاتكاء عليها لصبغ القلنسوة اليهودية باللون الاحمر.

فعندما قال ماركس (ان اليهودية لا تبلغ ذروتها ‏إلا مع اكتمال المجتمع البرجوازي) فلم يكن يعني في ‏ضوء منهجه العام ان البرجوازية تحقق ذاتها في اليهودية فتصبح اليهودية حسب (برتوكولات حكماء صهيون) ويصبح هيكل سليمان كعبة الامبريالية العالمية الأولى، بل ان اليهودية تحقق ذاتها في البرجوازية العالمية.

ان التعيين، هنا‏ تعيين للعلاقات البرجوازية وليس لايديولوجيا ما قبل رأسمالية كما تحاول الصهونية تطويع هيغل لتصوراتها. فالترتيب الهيغلي الذي يتحدث عن قيام الدولة البرجوازية المطلقة ذات الروح البونابرتية يحتاج إلى بنى وعلاقات برجوازية في التعين وليس إلى حاخامات تجاوزهم الغرب في القرون الوسطى.