الفتنة تطل برأسها في احتفالاتنا الدينية، عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيد

الفتنة تطل برأسها في احتفالاتنا الدينية، عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيد

أظن أن لبنان يفوق جميع دول العالم، من دون استثناء، في عدد الأعياد ذوات التوجهات الدينية والمذهبية. ولا يكاد يمر أسبوع إلا ويكون هناك مناسبةٌ، أو ذكرى، أو عيدٌ مخصصٌ لنبي ،أو رسولٍ أو قديسٍ أو ولي أو إمام … أو احتفاءٌ بذكرى حدثٍ له أهمية خاصة في رزنامة الطوائف والمذاهب الفسيفسائية في كيان “يفتخر” بأنه بلد يضم 19 طائفة… والحبل على الجرار!
في عهد داميان دو مارتيل، المندوب السامي الفرنسي في لبنان، أُقرّ بتاريخ 13 آذار سنة 1936 القانون رقم 60 / ل. ر. الذي يحدد “الطوائف المعترف بها قانوناً كطوائف ذات نظام شخصي هي الطوائف التاريخية التي حُدد تنظيمها ومحاكمها في صك تشريعي”… وأرفق القانون بملحق تضمن أسماء 19 طائفة.
وحيث أن معظم تشريعات الاستعمار الفرنسي في الوطن السوري، وخصوصاً الكيان اللبناني، أُقرّت بعقلية التوازن الطائفي (6 و6 مكرر)، فإن الأعياد الدينية تحولت إلى ساحة للمنافسة والتحدي بدلاً من أن تكون إطاراً اجتماعياً يعزز الإلفة القومية ويحارب التعصب المذهبي المقيت. وأذكر بوضوح ما حدث سنة 1974 عندما حلّ عيد الميلاد الغربي قبل أيام فقط من حلول عيد المولد النبوي.
كمية الرصاص التي أطلقت بمناسبة عيد ميلاد المسيح لا تُذكر أمام أنواع الأسلحة والذخائر التي لعلعت احتفاء بذكرى مولد الرسول العربي. وكان واضحاً أن الطرفين يرفعان سقف التحدي بموازاة تفجّر الساحة السياسية من جراء مطالبة النواب المحمديين بالمساواة عن طريق تعديل الدستور، في حين يرفض النواب المسيحيون المساس بامتيازاتهم الطائفية… وما هي إلا أشهر معدودات حتى غيّر المسلحون مرمى الهدف من كبد الفضاء إلى صدور أبناء وطنهم في حرب أهلية مدمرة!
ربما أصبحت تلك الحرب ذكرى من الماضي غير البعيد، لكن ما أن يحلّ على شعبنا عيد ديني أو مناسبة روحية معينة حتى ينبري كثيرون إلى حوارات ونقاشات، ظاهرها الدعوة إلى أعياد “شعبية” عابرة للطوائف أما مضمونها الحقيقي فهو العزف على وتر العصبية الدينية. وقد لاحظتُ أن بعض القوميين الاجتماعيين يشاركون، بحسن النية، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مستشهدين بنصوص لسعاده مأخوذة من قصة “عيد سيدة صيدنايا” الصادرة سنة 1932.
وبمناسبة عيد الأضحى قبل أيام، عادت النقاشات لتشغل منصات التواصل الاجتماعي. وكان لبعض القوميين الاجتماعيين حضور لافت، فمنهم من يدعو إلى التخلي عن الأعياد الدينية تماماً بينما يُفضل آخرون الدمج بين الديني والوطني (أو الشعبي). وكانت العبارة المأخوذة من قصة “عيد سيدة صيدنايا” تزين معظم المداخلات، وهي التالية:
“فيجتمع في العيد الـمذكور خلق كثير لا من الـمسيحييـن فقط، بل من الـمحمدييـن أيضاً لأن عيد صيدنايا يتخذ صفة عيد شعبي لسكان تلك الـمنطقة، فيبتهج فيه الشعب على اختلاف نحله، الأمر الذي ينبّهنا إلى الفائدة الاجتماعية الـجليلة التي يجنيها الشعب السوري كله من جعل الأعياد الدينية الـمحمدية والـمسيحية الكبرى أعياداً شعبية يوحد فيها السرور والابتهاج عواطف جميع السورييـن ويجعلهم يشعرون بوحدتهم القومية والاجتماعية”. (“الأعمال الكاملة – الجزء الأول”، صفحة 323).
لكن لفت نظري أن النص الذي يوزع في المواقع مختلف عن الأصل، أي أن أحدهم أدخل تغييراً فأصبح على الشكل التالي (التغيير باللون الأحمر وتحته سطر علام):
“من الضروري أن يتخذ أي عيد ديني صفة عيد شعبي لسكان تلك الـمنطقة، فيبتهج فيه الشعب على اختلاف نحله، الأمر الذي ينبّهنا إلى الفائدة الاجتماعية الـجليلة التي يجنيها الشعب السوري كله من جعل الأعياد الدينية الـمحمدية والـمسيحية الكبرى أعياداً شعبية يوحد فيها السرور والابتهاج عواطف جميع السورييـن ويجعلهم يشعرون بوحدتهم القومية والاجتماعية”.
ربما يكون الشخص الذي غيّر النص قد أقدم على ذلك لأسباب تحريرية، ومن دون التمعن بما يقصده. لكن النتيجة الحاصلة تناقض ما كتبه سعاده في الأصل. فعندما نقول: “من الضروري أن يتخذ أي عيد ديني صفة عيد شعبي”، فهذا يعني ضمناً أن العيد لم يتخذ، وأن سعاده يدعو إلى ضرورة أن يتخذ. في حين أن عبارة سعاده “لأن عيد صيدنايا يتخذ صفة عيد شعبي لسكان تلك الـمنطقة” تشير إلى أن العيد “يتخذ” في الحاضر الذي عايشه سعاده “صفة عيد شعبي”.
في الخطاب المنهاجي الأول (حزيران 1935) تحدث سعاده عن وجود “تقاليد متنافرة” عند السوريين، و”خلو مجموعنا من تقاليد قومية راسخة”. (“الأعمال الكاملة – الجزءالثاني”، صفحة 5). وعاد مرّة أخرى إلى هذه المسألة في المحاضرة العاشرة: “نحن نقول بتعطيل تقاليد تجرّ حياة المجتمع وتمنعها من التطور والارتقاء نحو أفضل المثل العليا وأجملها، وإشادة تقاليد جديدة تحل محلها وتكون مسهلة تطور الحياة وارتقاءها”. (“الأعمال الكاملة – الجزء الثامن”، صفحة 134).
نجد في كتابات سعاده تركيزاً ملحوظاً على أهمية “التقاليد القومية الراسخة”، مع التشديد على “إن نظامنا يرمي إلى صهر التقاليد المنافية لوحدة الأمة”. (المرجع السابق، صفحة 25). فالمشكلة لا تكمن أساساً في الأعياد الدينية من حيث هي تقاليد اجتماعية موغلة في القدم (ولنا عودة تفصيلية إلى هذا الموضوع الحساس)، وإنما تخرج الأعياد عن محورها الطبيعي عندما يستغلها التعصب المذهبي… فتنتفي أن تكون “أعياداً شعبية يوحد فيها السرور والابتهاج عواطف جميع السورييـن ويجعلهم يشعرون بوحدتهم القومية والاجتماعية”.
الأعياد الدينية في بلادنا، بصورة عامة، كانت طقوساً ومناسبات اجتماعية قبل تحولها الديني: التضحية والقيامة والميلاد والحج والفداء… قيم سامية آمن بها الناس، ثم أعطيت صفات مسيحية أو محمدية بفعل تبدل المعتقدات الروحية. ويصعب كثيراً إحداث تغيير سريع في مضامين الأعياد الدينية، لكن ما دعا إليه سعاده هو المشاركة العامة في الأعياد، مشاركة عابرة للطوائف. فلا احتكار في “السرور والابتهاج”، بل وحدة عواطف وتآلف مشاعر وإدراك وجداني للقيم السامية. ومع الوقت تنشأ “تقاليد جديدة… تكون مُسهلة تطور الحياة وارتقاءها”.