الجرح والبلسم

في قراءة حول رواية حين يبدأ الصدع كتبت رانيا ميخائيل
يقول مظفر النواب:
“كي لا يمسكني أحدٌ صرت شظايا أجرح، أجرح حتى حين أنام”
هذا حال بطل رواية (حين يبدأ الصدع) للأستاذة الكاتبة فاتن المر
تفتح للحزن بابا علها تستطيع أن تغلقه في النهاية، ونترقب حتى الصفحة الاخيرة.
حزن شخصي، حزن على الذات، على الوطن، على الأبناء.
من صفحاتها الأولى تقر حقيقة مفادها أن تسعين بالمئة من الشباب اللبناني محبط، وهذا الإحباط طبيعي في ظروف الحرب ونتائجها، لكن أية حرب! تلك التي خُلقت منذ عقود ولم تنطفئ بعد، بل تغيرت ملامحها إلى أزمات اقتصادية خانقة ومميتة لمن يعانون من حساسية مفرطة، ثم تأتي أزمة الكورونا وانفجار مرفأ بيروت، فيصبح كل اللبنانيين مرضى.
هذه الأزمات جعلت من البطل ناجي يتشظى ويجرح نفسه أولاً، فيبدو غريبا عن نفسه متنكرا لها، مستغربا متى وكيف أضاعها،
ثم يلجأ إلى معالج نفسي رغم عدم اقتناعه بحاجته له، يلجأ إليه نزولا عند رغبة أستاذته المديرة جانيت التي يكنّ لها كل الاحترام ولا يرفض لها طلبا، ثم يسرد لنا من خلال علاجه بطريقة (الكتابة والصور والتخيل والاستنكار) أزمةَ اختطاف والده الحنون المحب للأطفال أثناء خروجه لشراء هدية لميلاني في عيد ميلادها، ورحيل أمه عنه وهو لم يبلغ الخامسة من عمره، وعيشه في كنف جدة قاسية لا تريده، ولا تتوقف عن اتهام كنتها “الشيطان الرجيم الذي وجد لتدمير العائلة” والنقمة عليها، ولا تكف عن متابعة أخبار المخطوفين للعثور على ابنها، جدة تملأ جدران منزلها بصور لابنها من كل الأحجام والأشكال، كان ناجي بالنسبة لها هو ابن المخطوف، هكذا كانت تعرف عنه، ابن المخطوف، ليكبر ناجي ويصبح هو الضحية، يمتهن التصوير، هذه الوظيفة الرمزية لذهن متقد لا يكف عن ربط الصور بعضها ببعض، صور قديمة وحديثة، صور موالية ومعارضة، صور محورية وهامشية، صور الجلادين والضحايا، ليكمل لنا مشهد الحياة في لبنان من تاريخ سايكس بيكو إلى عام 2020 مع زلزال المرفأ ووفاة الجدة في التفجير ، لتكتب الكاتبة رسالة وجدانية تجعلها جسرا للمواساة من أهالي مفقودي الحرب في لبنان إلى أهالي مفقودي انفجار مرفأ بيروت: “أرواحنا الحزينة وقلوبنا الدامية معكم”.
هكذا يتحول الحزن إلى قضية وطنية تصحح مسار الانتماء.

يتفاقم التدهور الصحي والاقتصادي لناجي ويقود روحه إلى هاوية أعمق فيبدو مكسرا لا يقوى على لملمة حطامه، هنا يستسلم لعلاجه ويندمج فيه، فتتكشف أبعاده الغامضة من خلال ذاكرة قريبة مثقوبة تسيل أحداثها يوما بعد يوم، معلنة الثورة على التهميش والتجاهل المقصود من قبل الدولة اللبنانية بعد اكتشاف مقبرة جماعية في بيروت عام ٢٠٠٠، كان من الممكن تعرف الضحايا، لكن، لا يهم!!! فقد اعتاد الشعب على رؤية الجثث واعتاد القتل، واعتاد البحث عن المفقودين حتى الرمق الأخير رغم إحساسهم بيقين الموت.
“عندما اقتربت لحظة موتها، همست ابنتها في أذنها: (أمي، ابحثي عن جورج هناك، ونحن نستمر في البحث هنا.) ص٣٩
يطغى السوء والألم فتحاول الكاتبة من خلال شخصية غيداء وكريستينا الإنكليزية ابنة اللورد أن تجعل الحب وحده هو الدواء لكل أمراض الماضي والحاضر، وعندما تعجز عن الشفاء تسمح لغيداء البحث عن زمن بدء الصدع وتدهور الحب وضياعه عبر أزمنة أحداث الرواية.
بين فصل وآخر تتضح نتائج الأزمات وضحايا الاقتصاد بدءا من الكتاب ورواده انتهاء بالبنوك وسرقاته، لتتعاظم قوى الشر وتأكل كل شيء، تظهر الحاجة الملحة لقوة سحرية لإنقاذ الضعفاء فيتجسد الصراع من أجل الخير من خلال جانيت المديرة التي تستمر في أعمالها الإنسانية رغم الخراب، ومن خلال وداد حلواني امرأة النار والنور، ورشاد الشخصية الملفتة المهمة، وشخصية عاصي الطفل الاستثنائي بقدراته الخارقة لإحقاق الحق ثم تجعلنا شبه متيقنين أن رشاد هو الماضي لناجي، وعاصي هو المستقبل وهو المارد الذي سيخلصه من أزماته.
تطرح فكرة الزائر الخفي الغريب، الذي يعبث بالأشياء والمحتويات، فمرات يغير مواضعها، ومرات يضيف عليها، ومرات يأخذ منها، هذا الزائر الخفي المجهول قد يكون قدرنا، ماضينا أو حاضرنا.
مفارقات وجدانية كثيرة ومهمة تضعنا الكاتبة أمامها وجها لوجه، لنلمس قوتنا أو ضعفنا، وصور كثيرة للضحايا، بلاد منهوبة، لعنة المشاريع الاستعمارية وأزلامها جورج بيكو ومارك سايكس، صور مكاتب فخمة لمؤامرات دنيئة، خطط، مصالح، صور مقاطعات وحدود، صور معارك وحروب وموت.
ثم وبأمومة عالية تستحلفنا بالحب الذي تختم به لأنه الوحيد القادر على الاستمرار.
باختصار نص روائي بلغة أنثوية رقيقة شفافة وتحتها بركان.