سعادة وفلسفة التاريخ، الخاتمة – الجزء الأول

سعادة هو رائد من رواد المدرسة العلمية، يعتبر العقل هو الشرع الأعلى للإنسان، يؤيد الحقائق العلميّة ويعترف بها، يؤمن بالتطوّر في دائرة المعرفة، والعلم، والحقائق، والمنطق. ويشهد كتابه “نشؤ الأمم” الإجتماعي العلمي البحت البعيد عن التأويلات والإستنتاجات النظرية، وسائر فروع الفلسفة، على المنهج العلمي الواضح الذي اعتمده سعاده لإرساء قواعد الفهم الصحيح لحقائق الحياة الإجتماعية ومجاريها، من أجل تقوية حيوية الجماعة، وتعزيز مؤهلاتها المادية والروحية للبقاء والإرتقاء، والغاية الأساسية عنده هي حياة الأمة وتأمين مصلحتها العليا ومستقبلها وما يجب أن تصل إليه من الإرتقاء والبحبوحة والعدل الاجتماعي – الاقتصادي. وعلى ضوء ذلك ندرس العقيدة القومية الإجتماعية وما يتفرع عنها من نظريات في سائر فروع العلوم والفنون، والفلسفات، ومن بينها نظرية “فلسفة التاريخ ” عند سعادة.
بداية، لم يضع سعادة بحثا نظريا مستقلا متكاملا للفلسفة التاريخية ومنهجيتها وأسسها وأغراضها: ” يشرح فيه فلسفته للتاريخ والقواعد المنهجية الخاصة به، والأسس النظرية التي تقوم عليها، والأغراض التي ترمي إلى تحقيقها، كما فعل “هيغل” مثلا في كتابه “فلسفة التاريخ “(1). من هنا، فقد تعمدنا تقصي أسس هذه النظرية في المقالات المتفرقة التي أشرنا إليها سابقا.
سعادة الذي شهد الويلات التي حلّت في العالم منذ مطلع القرن العشرين، خصوصا الحرب العالمية الأولى وتداعياتها المأساوية، ولاسيما على الأمة السورية، ممّا دفعه إلى طرح السؤال في بداية عمله القومي الإنقاذي: ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟
سعادة رأى أنّ نصف ويلات البشرية مردّها إلى النزعات المعادية القومية منها والعنصرية والإقليمية التي سيطرت على التواريخ المحشوة بالفلسفات المغرضة والشروح الموضوعة قصدا لمقاصد توجيهية سيئة، والمنسوخة بأساليب مسمّمة للعقول، والمعمّمة على الرأي العام، والمخصصة لطلاب المدارس، الذين يخرجون إلى الحياة العامة حاملين في قلوبهم الكره والاحتقار للشعوب والجماعات الأخرى. وأورد سعادة على ذلك العديد من الأمثلة التي ذكرناها سابقا. والغريب في الأمر أنّ تلك “الثقافة” التاريخية المنقرضة السامة لم تقتصر على روح عداء المؤرخين الأجانب من الغربيين لكلّ ما هو شرقيّ وسوريّ خصوصا، بل تجاوز الأمر إلى تشويه الحقائق بين الدول الأوروبية – الغربية نفسها ، خصوصا بين الجارين اللدودين فرنسا وإلمانيا مع تسجيل انتقال العدوى إلى الأميركيتين، وتحديدا إلى البرازيل (راجع فقرة مقالة “علم التاريخ وسلام العالم”) .
تصدى سعادة لهذا الواقع المرير، الممنهج في فلسفة التاريخ المنقرضة، بإقدامه على “مذهب جريء”، جديد، يتناول الشأنين الإنساني العام، والسوريّ الخاص.
اولا: في الشأن الإنساني العام دعا سعادة
إلى عدم مزج الفلسفة بالتاريخ. واعتبار ذلك علم ثابت خالص يعرّض معارفنا للتشويش الذي يحول دون بلوغنا الغاية الشريفة التي نتوخاها، فضلا عن أنّ ذلك الأمر، أي مزج الفلسفة التاريخية بالتاريخ، له نتائج خطيرة مدمّرة على صعيد الكيانين العلمي والإنساني، وعلى المساعي التي يضحي من أجلها المفكرون لصيانة السلام العالمي،
تجريد التاريخ من النزعات والفلسفات المغرضة المسممة للنفوس والعقول، والتي تغني عن معظم مؤتمرات تحديد السلاح وعقد المعاهدات لتجنب الحروب.

البحث في أساليب إعداد كتب التاريخ للمدارس، وطرق تعليمها، كذلك الأمر بالنسبة إلى التواريخ العامة المخصصة للرأي العام.
الطلب من المعاهد العلميّة السورية إرسال نداء حار إلى معاهد العلم في العالم كلّها تدعوها فيه إلى عقد مؤتمر عام يقوم بمهمة التحقيق في مؤلفات التاريخ المعمول عليها في التدريس عند جميع الأمم، وتوحيد علم التاريخ العام، ونشر المعلومات التي تبطل تأثير التواريخ الخارجة عن دائرة العلم.
تنزيه معارفنا فيما يتعلق بأنفسنا وجيراننا والبعيدين عنّا كثيرا، يتوقف عليه سلام العالم، أكثر مما يتوقف على المؤتمرات والمعاهدات السياسية “.
تنظيف التاريخ من الشروح التاريخية غير العلمية، التي هي ، بحدّ ذاتها، جريمة عظيمة يرتكبها المؤرخون، بقصد أو بغير قصد، بتشويه علم التاريخ بما يحشونه من نظريات فلسفية، ليست في الأكثر، في جانب الخير العام وسلام العالم ولا في جانب الحقيقة والحقّ .
ضرورة الفصل بين معنى التاريخ ومفهوم الفلسفة التاريخية
والتاريخ ليس إلا عبارة عن صورة ثابتة لحوادث سابقة لا تعلل عن شيء فيما يختص بفلسفة تلك الحوادث.
إذا كنا نستدل بالتاريخ على الماضي، فإنما نفعل ذلك لنعيد إلى ذاكرتنا الحادثات والاختبارات التي مرت بالنوع البشري في الأزمنة التي سبقت زماننا.
. . . يتبع . . .
الهوامش
1-أدمير كورية: فلسفة التاريخ عند أنطون سعاده، الديار 17-12-1991، ص28.