ثانيا: محاضرة “الاتحاد العملي في حياة الأمم”.
ألقى سعادة هذه المحاضرة في الحفلة الافتتاحية للنادي الفلسطيني في بيروت عام 1933. ونشرت في جريدة “النهضة” (1).
نقتبس من هذه المحاضرة القيمة، ما اختص بدراستنا “سعاده وفلسفة التاريخ ” حيث يشدّد فيها على “مذهب التاريخ المستقل للأمم الذي هو الأساس في استقلالها واحترامها وعنوان مجدها وفخرها وبدء تاريخها، رافضا بشكل قاطع العبارة الرومانية “هنيئا للأمة التي لا تاريخ لها”، موضحا أنّ الأمة التي لا تاريخ لها، هي أمّة لا منزلة محترمة وحقوق معترف بها عند الأمم الأخرى. وكلّ أمة تستند إلى تاريخ غير تاريخها تفشل في اكتساب حقوق مستمدة من ذلك التاريخ. فلا يحق لأمة أن تطالب إلا بنتيجة عملها هي نفسها: “فالتاريخ المستقل هو أساس الاستقلال لكلّ الأمم….. لا تستطيع أمّة أن تفاخر إلا بتاريخها، وهذا هو بدء التاريخ …إذا لم نقم بشأن تاريخنا فلا شأن لنا في التاريخ. والأمة التي لا شأن لها في التاريخ لا شأن لها بين الأمم.. “، وعلى ذلك يورد المثلين عن الحية والأفعى، وخلاصتهما: لا تستطيع الأمة إلا أن تفاخر إلا بتاريخ صنعته بإرادتها.
أمّا في المثل الثاني، فقد دعا سعاده الأمة لمواجهة الأفعى ذات المئة رأس، التي تهدّد حياة الأمة وكيانها وعمرانها على مساحة الوطن، ودعا الشعب إلى الإعتماد على نفسه والقيام بمسؤؤليته، لمواجهة هذه الأفعى الخطيرة وقتلها، وانقاذ الأمة من خطرها.
من هذين المثلين السابقين نستخلص العبر التالية، إنّ مذهب التاريخ المستقل تصنعه الشعوب العظيمة المجاهدة بنفسها من أجل تاريخها، حتى يكون لها شأن في التاريخ بين الأمم الحرّة. إنّ الواجب القومي يدعونا إلى الإستقلال بتاريخنا بإرادتنا نحن، بقوتنا نحن، حتى نحقّق كياننا الحرّ السيّد المستقل، فالتاريخ المستقل هو أساس الإستقلال الحقيقي، بل هو بدء التاريخ الحقيقي لأمة تريد الحياة الحرّة الكريمة، لأمة تستبدل مقولة الذلّ والخنوع والاستسلام: “هنيئا للأمة التي لا تاريخ لها”، بفلسفة جديدة عنوانها: هنيئا للأمة التي لها تاريخ تفتخر به بين الأمم الحرّة، أمّة حرّة، قائدة وهادية للأمم الحرّة، لا أمّة مسعبدة، خانعة ، مستسلمة، حريات الأمم عار عليها .
ثالثا: خلاصة الفصل الثالث من نشؤ الأمم: “البيئة وتاريخ الجماعة”.
يعالج سعادة في الفصل الثالث من كتاب “نشؤ الأمم”، تحت عنوان ” الأرض وجغرافيتها”، المواضيع الآتية ” 1- أهمية الأرض للحياة. 2- أهمية البيئة للإنسان.3- البيئة والجماعة. 4- البيئة وشخصية الجماعة، 5- البيئة وتاريخ الجماعة.
وينهي سعاده هذا الفصل بالتأكيد على العلاقة التفاعلية بين البيئة والبشر والتاريخ”:”…ومن هنا نستنتج أنّ الطبيعة والجغرافية هما الطبقة الداخلية في حياة الإنسان. فمع أنّهما يميزان الجماعة تمييزا واضحا فإنّهما، فيما يختصّ بتاريخ الجماعة، لا تقدمان الاضطراريات، إلا نادرا وفي حالات استثنائية، ولكنهما تقدمان الإمكانيات.
إنّ التاريخ غير مكتوب في طبيعة الأرض، مع أنّ الأرض هي إحدى الإفتراضات التي لا بدّ منها لنشؤ التاريخ والعوامل الفاصلة في حياة البشر وتطورها هي العوامل النفسية والفردية، التي مع أنّها تتأثر كثيرا بعامل البيئة، أمّا أن تستفيد من القاعدة الطبيعية، شأن الجماعات الراقية، وإما أن تهملها، على حسب استعدادها وإرادتها.
يتضح من النص المتقدم أنّ العملية التاريخية عند سعاده تتمحور حول حتمية التفاعل الثابت والمستمر والمتطوّر بين العناصر الحياتية الثلاث: الإنسان والأرض والعمل، وهذا التصوّر التفاعلي الحتمي يلغي فكرة اختزالية التفسير الأحادي الذي يحيل التاريخ كلّه إلى الروح(الفكر) وحدها، أو المادة بمفردها، ويضعنا أمام مفهوم جديد، أطلق عليه سعاده مصطلح “المدرحية”، للدلالة على تلازم العوامل المادية والنفسية وتفاعلها في العملية التاريخية، فالتطوّر الاجتماعي عند سعاده هو دائما على نسبة التطوّر الإقتصادي. كما أنّ القوة المادية هي دليل قوّة نفسية راقية.
وينهي الفصل الثالث بقاعدة حتمية التفاعل بين الجماعة والبيئة، التي لا بدّ منها، أو الضرورية، لنشأة التاريخ.
فــ “لا بـــــشـــــر حـــــيـــــث لا أرض، ولا جـــــمـــــاعـــــة حـــــيـــــث لا بـــــيـــــئة، ولا تـــــاريـــــخ حـــــيـــــث لا جـــــمـــــاعـــــة ” (2).
استكمالا إلى ما تقدم، فإن الكتابات التي تطرق فيها سعاده إلى نقد الروايات التاريخية وفلسفتها هي متعدّدة، ولعلّ أبرزها ما ورد في المقالات الثلاثة الآتية:
الأولى: الحرية وأم الحرية ــ تأملات في الثورة الفرنسية (3). انتقد سعادة في مقدمة هذه المقالة، التي كتبها في ذكرى الثورة الفرنسية الـ 134 بتاريخ 14-7-1923. “عقيدة تأليه فرنسا” بشكل لاذع ومتهكم الكتّاب والمؤرخين الذين نظروا إلى “الثورة الفرنسية”، من الناحية التاريخية فقط، وقد أهملوا “الحقيقة الفلسفية” لهذه الثورة، وفي الشرح يستدرك متسائلا: “ولكن كيف ينتظر العالم منهم كتابة ما لم يُسطِّره التاريخ وهم قد استقوا مادتهم من التاريخ وقصَّروا مصادرهم على التاريخ، كأنهم لا يدركون أنّ هنالك ما هو قبل التاريخ وأهم من التاريخ، وهو الحقيقة الفلسفية التي تبحث في مسببات الأمور ونتائجها وتحكم بخيرها للإنسانية أو شرها ونفعها أو ضرّها. لذلك كانوا كلما كتبوا شيئاً عن تلك الثورة كرروا على مسامعنا عبارات «هو ذا التاريخ أمامكم اسألوا التاريخ”. فكان التاريخ شاهدهم الوحيد في كل ما يكتبون أو يقولون “.
الثانية: معركة ميسلون
استتبع سعادة نقد الروايات التاريخة الفرنسية المشوهة للحقيقة السورية، خصوصا ما ورد في أحداث معركة ميسلون وتداعياتها، التي تأتي في السياق التاريخي بعد معاهدة سايكس ــ بيكو ووعد بلفور ولواحقهما من أبرز تداعيات الثورة الفرنسية الكارثية على أمتنا. والتي هي دليل آخر على خداع فرنسا للعالم كلّه بالثورة الفرنسية وشعاراتها الكاذبة .
كما انتقد الروايات التاريخية المعادية التي تتحدث عن معركة ميسلون وتداعياتها، وتعتبرها إنتصارا تاريخيا لقوّة فرنسا ومبادئها السامية، وإنّ معركة ميسلون هي نهاية تاريخ الأمة السورية، فاعتبر هذه الروايات مضللة مؤكدا أنّ معركة ميسلون هي: “بدء تاريخ الأمة السورية الحديث، لا نهايته “. وإن معركة ميسلون هي أعظم وأمجد المعارك التي شهدتها هذه البلاد في التاريخ الحديث، لأنّها تمثّل روح أمّة حيّة ترمز إلى مثله العليا. وأنّها أول معركة نظامية يقوم بها في التاريخ الحديث جيش سوري بقيادة قائد سوري من أجل حريّة سورية. وإنّها تمثّل مبدأ جديدا في حياة سورية جديدة المتنبهة، مبدأ العمل الجديد لا مبدأ الهرب من المسؤوليات، ثمّ ادعاء النصيب في ثمرة الجهاد. وإنّها الدليل القاطع على أنّ سورية قد صممت أن تكوّن تاريخها بنفسها وأن تحصد ما تزرع وتجني ما تغرس. وإنّها أعظم دليل على أنّ سورية تتمكن من صيانة كيانها والدفاع عن أرضها. وإنّها قوّة سحرية مخزونة، ولكنّها قوة فاصلة في حياة الأمم، هي قوة الإرادة العجيبة هي قوّة إرادة أمّة حيّة. وإنها تمثّل جزءا يسيرا جدا ممّا تستطيع الأمة السورية عمله مجتمعة. وإنّ قوّة الأمة كلها ومبلغ حنكتها وأساليبها لم تكن ممثلة تمثيلا صحيحا في ميسلون، فميسلون لم تكن سوى اختبار ضروري لتحسين أساليب عمل الأمّة.
إنّ ميسلون هي بدء تاريخ الأمة السورية الحديث، لا نهايته، والذين لا يفهمون هذه الحقيقة لا يفهمون شيئا من حياة الأمم وموتها، ولا يفهمون شيئا من معاني التاريخ (4).
وعلى أساس هذه القاعدة، توجّه سعاده بالنقد الشديد اللاذع لما أورده جبران مسوح في روايته التاريخية عن معركة ميسلون، في كتابه “المسيحي والمسلم”: (5). ووصف روايته بالسخيفة بسبب قراءته المعادية لحقيقة معركة ميسلون.
الثالثة: الحروب الفينقية
الحروب الفينيقية هي مثل آخر عن تشويه الحقيقة السورية من خلال المدارس التاريخية المعادية وأتباعها من المؤرخين والباحثين والتشكيلات السياسية والطائفية من أبناء شعبنا المضللين، متجاهلين دور المدرسة السورية للتاريخ التي أنجبت المؤرخين والثقات الموثوقين في تدوين تاريخ الشعوب والدول في زمنهم. لقد انتقد سعاده بروح علمية، وبايراد الحقائق التاريخية المثبتة، هذه الفلسفة التاريخية المغرضة التي تعمدت تشنيع كلّ صفة للشعب السوري وتحقير انجازاته الحضارية.
يقول سعاده: “إذا ما قلت أنّ سورية هي التي نشرت الطابع العمراني في البحر المتوسط الذي صار أساس للتمدن الغربي الحديث، فإنّي أقول ذلك بأدلة وثيقة حتى من التاريخ الذي كتبه مؤرخون هم من تلامذة المدرسة الإقريكية- الرومانية بعد انقراض المدرسة السورية للتاريخ، وعندما أقول تلامذة المدرسة الإغريقية – الرومانية للتاريخ، أعني مدرسة التاريخ التي رمت إلى تشنيع كلّ صفّة للشعب السوري بعامل العداوة بين السوريين والإقريك أو بين السوريين والرومان أخيرا.
ففي الصراع العنيف على السيادة البحرية في المتوسط بين السوريين والإقريك أولا، ثمّ بين السوريين والرومان، نشأ صراع قويّ جدا بين أدب الإقريك والسوريين، وبين أدب السوريين وأدب الرومانيين. وقد أثبتت في حديثي الماضي عن كيفية تشويه الحقائق التاريخية، مثلا ما رواه “النبع” المصدر التاريخي للحروب الفينقية المعروفة بالتسمية (بونك)تحريف الفينقية عن الإقريك.
فوليبو هو المصدر الأساسي لكلّ من يريد أن يكتب في تاريخ الحروب الفينقية الثلاثة التي نشبت بين قرطاجة ورومية. ففي رواية فوليبيو عن كيفية قطع هاني بعل لجبال الألب والبيرانيز قصد تشويه هذه الحملة التي لم يسبق لها مثيل ولم تصل إلى عظمتها أيّة محاولة شبيهة بها من قبلها أو بعدها . قال مخطئا الذين يرون في هذا القطع لأعظم جبال في أوروبا عملا عظيما، قال : إنّه سبق لجماعات بشرية أن قطعت جبال الألب،وعنى بالذين عبروا تلك الجبال جماعات متوحشة من الجلالقة أوغيرهم ، وأراد أن يقرن بين انتشار جماعات متوحشة بغير قصد تدفعها في ارتحالها عوامل عمياء أو اضطرار قاهر ، وبين حملة عسكرية مرتبة منظمة في الدماغ من قبل، مهيأة بترتيب ومجهزة بقصد واضح وترتيب للقيام بها مع تقدير لكلّ خطورتها وبقصد، ليس فقط اجتياز هذه الجبال، بل إخضاع العدوّ .
إنّ تصميما عظيما من هذا النوع لا يمكن أن يمثّل بجماعات متوحشة يمكن أن تصعد وتنزل في الجبال، إنّ فرقا عظيما بين هذين.
مع ذلك فلم يجد فليبيو أي فرق ولم يرد أن يجد أي فرق لأنّه قصد من روايته أن يُحقّر كلّ عمل قام من الناحية السورية.
هذا مثل واحد، وهنالك أمثال عديدة من هذا النوع تدلّ على كيفية رمي المدرسة الإقريكية – الرومانية التاريخية إلى تشويه الحقيقة السورية وعدم الإعتراف بأي فضل لها ولا بأيّة قيمة.
كانت الغاية عند سعاده من نقد فلسفة الروايات التاريخية المعادية والمجحفة بحقّ تراثنا وحضارتنا، هو إنصاف التاريخ السوري، من خلال كشف الحقائق التاريخية وتثبيتها على قواعد علمية، لا تقبل الشك، وعلى أساسها تستمدّ النهضة السورية القومية الإجتماعية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي القومي.
جارى معظم المؤرخين والباحثين والتشكيلات السياسية والطائفية من شعبنا، في تدوين تاريخ سورية، المراجع الأجنبية المعادية، ونسجوا على منوالهم، فكادت من جراء ذلك تضيع هويتنا القومية، إلى أن انبثقت أنوار النهضة السورية القومية الاجتماعية. (راجع ما كتبه سعاده في مقالتي: ” صناعة العقائد المزيفة” و”مثالب الذل والخداع”)
“منذ تلك الساعة نقضنا بالفعل حكم التاريخ وابتدأنا تاريخنا الصحيح، تاريخ الحرية والواجب والنظام والقوة، تاريخ الحزب السوري القومي الإجتماعي، تاريخ الأمة السورية الحقيقي ” (6) .
في الشرح يقول سعادة:
منذ تلك الساعة نقضنا بالفعل حكم التاريخ يعني أنّنا بارتباطنا في وحدة العقيدة قد عكسنا قول التاريخ فينا، أنّنا جماعة لا تربطها رابطة، لا تكوّن شخصية، لا تكون مجتمعا موحد الحياة، بل جماعة أو جماعات من البشر متنافرة متباينة متعايشة، ليس لها إرادة، لا تعمل ما تريدن، بل ما يفرض عليها من المجتمعات الخارجية الفاهمة التي تستخدم مجموعنا وسيلة لبلوغ أغراضها وغاياتها هي “
“أعود فأقول إنّ هذا القوة النظامية ستغير وجه التاريخ في الشرق الأدنى. وقد شاهد أجدادنا الفاتحين ومشوا على بقاياهم، أما نحن فسنضع حدّا للفتوحات “ (7 ).
ورأى سعاده أنّ الأمة التي تحقّق فيها الوعي للحقائق الأساسية، هي وحدها القادرة على تكوين خطط الاتجاه التاريخي، وقد وضع نظام الحزب السوري القومي الاجتماعي لصون النهضة القومية الاجتماعية التي ستغيّر وجه التاريخ (8)
يتبع
الهوامش
سعادة: الأعمال الكاملة، ج1، ص398.
سعادة: نشؤ الأمم، الفصل الثالث.
سعادة: الأعمال الكاملة، ج1، ص46.
سعادة: المرجع السابق، ص ص402.
سعادة: نفس المرجع، ص 106.
و7 و8 سعادة: راجع المحاضرة الثانية.