لدينا أزمات كامنة تشكل خطراً على عدد من دول المنطقة، سببها مشاكل النزوح والتهجير الناتجة عن الحروب والأزمات الاقتصادية، واستسهال العبث بالديموغرافيا بشكل واسع.
بداية، لن ندخل في التمييز بين مصطلحات النازحين واللاجئين والفرق بين حقوق النازح واللاجئ بحسب القانون الدولي أو تعريفات المنظمات الدولية ومدى اعتراف دولنا بهذه التعريفات. بل سنسمي الجميع نازحين، لأن النتيجة المأساوية واحدة بغض النظر عن التسمية.
أعداد النازحين في ازدياد وغير محددة بشكل دقيق. في لبنان أكثر من مليون نازح سوري، وبضعة مئات آلاف من النازحين الفلسطينيين. في الأردن ما يزيد عن مليون ونصف نازح سوري وعراقي، وأكثر من نصف عدد السكان من النازحين الفلسطينيين أصلاً. ملايين المهجرين قسراً والنازحين داخلياً في الشام والعراق. ثلاثة ملايين نازح سوري في تركيا.
وقد صرف مموّلو الحرب على الشام أكثر من مئتي مليار دولار مباشرة لتمويل الحرب وإسقاط النظام على مدى أكثر من عشر سنوات، باعتراف عدد من كبار المسؤولين مثل رئيس حكومة قطر ومسؤولون أتراك وعرب. وقدّر البنك الدولي قيمة الخسائر الاقتصادية الناتجة عن الحرب بحوالي أربعمئة مليار دولار. وصرفت الأمم المتحدة والمنظمات الدولية حوالي عشرين مليار دولار على عمليات الإغاثة والتعليم والصحة والاستضافة لملايين النازحين في الداخل والدول المضيفة. وتقول الدول المضيفة خاصة لبنان وتركيا والأردن، أن كلفة استضافة النازحين فاقت الثمانين مليار دولار في الدول الثلاث من خدمات واستهلاك وكلف غير مباشرة على مدى أكثر من عشر سنوات، غير ما صرفته الأمم المتحدة والمنظمات الدولية من تمويل مباشر للنازحين. ويقدّر البنك الدولي كلفة إعادة الإعمار بما يفوق 500 مليار دولار. وتم صرف 100 مليار دولار لمكافحة داعش من خلال تحالف غربي – عربي.
وفي الجهة المقابلة، كبّدت هذه الحرب الدولة السورية وحلفاءها أكثر من مئة مليار دولار لتغطية كلفة المواجهة وتشغيل الدولة في ظل الحصار وانهيار سعر الصرف والأزمة الاقتصادية المتفاقمة. فتكون الكلفة المادية لهذه الحرب المجنونة وكلفة التدمير الاقتصادي والعمراني الذي خلفته قد قاربت التريليون ونصف دولار.
كل ذلك بحجة تغيير النظام وتحسين مستوى حياة السوريين وإعطائهم المزيد من الديمقراطية والحرية!!
لو دُفع عشر هذا المبلغ على التنمية في الشام، برغم كل الهدر والفساد الذي كان يمكن أن يحصل، لكانت أصبحت تضاهي أفضل الدول الأوروبية تطوراً وتنمية ومستوى حياة، وكانت تطورت مسائل الحريات والديمقراطية والمشاركة السياسية بشكل تلقائي وأفضل بكثير مما هو قائم اليوم بعد عقد من التدمير الممنهج. لكن الواضح أن الهدف كان تدمير الشام وكسر موقفها ودورها في المحيط المباشر والعالم العربي، وليس الحرص على الحريات والديمقراطية فيها.
كل هذه الحسابات والتقديرات، لم تأخذ بعد بعين الاعتبار، الخسائر والأضرار المعنوية والإنسانية والاجتماعية، الناتجة عن مئات آلاف الشهداء والضحايا، وملايين النازحين والمهجّرين، وعن تدمير الدورة الاجتماعية الاقتصادية، الصناعية والتجارية والخدماتية في البلاد والمنطقة، وتمزيق البنية الاجتماعية الواحدة وتوليد الأحقاد والمخاوف والرعب عند أجيال وعائلات وأبناء الشعب الواحد من طوائف ومناطق متعددة، وتكريس مشاهد القتل والمجازر والتهجير التي يصعب محوها من الذاكرة التاريخية لأجيال قادمة.
ولكن الأخطر من ذلك أيضاً، هو استسهال العبث بديموغرافيا الشعوب، من خلال التدمير الواسع وتشجيع التهجير والنزوح الجماعي، ومنع العودة والمصالحة الوطنية التي تهدف الى إعادة مداواة الجراح الوطنية والاجتماعية. فكانت الخطط المعلنة للدول الداعمة للحرب والمعادية للحكومة السورية وسياستها، هو عدم السماح بعودة النازحين، حتى لو أرادوا، والدعوة الى توطينهم في البلدان المضيفة، أو إعادة توطين عدد قليل منهم في بلدان أجنبية أخرى. وهذا الاستسهال يضرب عرض الحائط بمشاعر وطموحات وإرادة وانتماء النازحين أنفسهم، وحقهم في العودة الى حياتهم وبلدهم ومدنهم وقراهم، برغم الدمار الشامل في بعض المناطق، حيث تراثهم وتاريخهم وذكرياتهم. كما يضرب ايضاً عرض الحائط بواقع الدول المضيفة وتركيبتها الديموغرافية والاجتماعية والسياسية، وإرادة الشعب فيها وطموحاته.
وفي مراجعة للمواقف الدولية والسياسات ذات الصلة، سواء من خلال الحوارات المباشرة مع مسؤولين دوليين أو من خلال مراقبة المواقف والردود على كل محاولات إعادة النازحين وإجراء المصالحات المحلية والوطنية، نجد ضخّ كمية هائلة من الأخبار والإشاعات والتخويف من أن العودة هي عودة غير طوعية وغير آمنة، وأن النازحين لا يريدون أن يعودوا قبل أن يتغيّر النظام، أو قبل أن يحصل حل سياسي يؤدي الى وصول أزلام الدول التي قامت بالحرب للمشاركة في السلطة. فيما تستمر هذه الدول بفرض كل أنواع الحصار والتشويه والشيطنة لكل ما يحصل في الداخل، لعلهم يستطيعون من خلال ذلك تحقيق أهدافهم التي لم يستطيعوا تحقيقها بالحرب. فيما تضغط هذه الدول من خلال المنظمات الدولية على الدول المضيفة لتوطين النازحين، وتجمّل للنازحين مسالة التوطين على أنها أفضل من العودة، دون استفتائهم أو أخذ رأي الدول المضيفة وشعوبها حول هذا الموضوع.
وفي بداية الأزمة، وجدت حكومات الدول المضيفة، مثل الحكومة اللبنانية والأردنية والتركية، أن مسألة النزوح والتمويل هي مسائل مفيدة لها، سياسياً ومالياً، حيث إن فساد هذه الحكومات وفساد الأطراف الدولية المموّلة، أدّى الى استفادة الكثير من المنتفعين والمتنفذين في الدول المضيفة من هذا التمويل، برغم أنه يضرّ باقتصاديات دولهم على المدى المتوسط، لأن كلفة الاستضافة الحقيقية هي أضعاف قيمة التمويل الدولي.
وفيما حاول البعض من حلفاء الدول المعادية للحكومة السورية في الدول المضيفة، الاستفادة سياسياً من موضوع النزوح، وجدوا أنفسهم متروكين في النهاية لمصيرهم، خاصة بعد أن أصبحت الأزمة السورية برمتها في أسفل الاهتمامات الدولية، وتحديداً بعد الحرب الأوكرانية وانشغال الغرب الأوروبي والمنظمات الأممية بمعالجة آثارها الكارثية في أوروبا، وبعد انكفاء الاهتمام والتمويل العربي، وبعد تغيّر المعادلات الدولية وإعادة انفتاح عدد من الدول العربية والإقليمية التي كانت تمول الحرب السورية، على الحكومة السورية ومحاولة إعادة ترميم علاقاتها معها ورسم توازنات إقليمية جديدة على ضوء المتغيرات العالمية. وليس آخر هذه المتغيرات، إعادة الحوار التركي – السوري، والخليجي – السوري، برغم المعارضة الأميركية لهذا الانفتاح حتى إشعار آخر.
ومن المفيد التذكير أيضاً أن مسألة تهجير موجات كبيرة من المواطنين، واجبارهم على ترك مناطقهم وقراهم ومدنهم، كان لها عدة أسباب خلال المرحلة الماضية. جزء منها القتال الفعلي والتدمير الحاصل في تلك المناطق. ومنها ما له علاقة بالتخويف الجماعي من جماعات “التكفير والهجرة” وداعش وأخواتها. ومن أبرز الأسباب التي لا يستهان بها هو التشجيع من قبل الدول المناهضة للنظام، والإغراء بالتمويل الدولي في الدول المضيفة، والوعود الخلابة بالجنسيات الأجنبية في الدول المتطورة. ومعظم هذه الوعود تحولت سراباً مع الوقت..
ولو عدنا قليلاً الى بعض التجارب التاريخية، المتعلقة بالعبث بالديموغرافيا على نطاق واسع، لوجدنا أمثلة مثل الهجرات الأوروبية الى الأميركيتين بعد اكتشاف القارة الجديدة، وعلى أثر الحروب الطائفية الطاحنة في أوروبا في القرون الوسطى. حيث قام المهاجرون بمجازر كبرى بحق الهنود الحمر والسكان الأصليين، واستعمروا الأراضي الشاسعة الفارغة أو التي تم إبادة سكانها الأصليين. فصُوّرت تلك الهجرات الأوروبية الى القارة الأميركية على أنها هجرات حضارية الى بلاد فارغة لتنميتها وتطويرها. وبعد أن استتب لهم الأمر، بدأ الإعلام الأميركي في القرن العشرين بتجميل الهجرة الى اميركا وإنتاج أفلام هوليوودية حول الحلم الأميركي، بهدف اجتذاب الأدمغة من دول العالم الثالث والاستفادة منها، أفراداً وعائلات ومجموعات صغيرة. وكان لبلاد الشام حصة وافرة من هجرة الأدمغة على مدى القرنين الماضيين.