الواقع الطائفي

كما هي الحال مع الفساد المستشري ونتائجه، هذا المرض المُزمن والمتغلغل في المؤسسات العامة والخاصة وفي شتى مظاهر حياتنا، والذي لعب دوراً بارزاً في الانهيار العام وشكَّلَ عائقاً أمام تقدم الأمة ونهوضها، كذلك الأمر بالنسبة لداء الطائفية وما ينتج عنه من تعصّب قتّال، يُشّوه طبيعة الدين، ومن حواجز طائفية منتصبة داخل مجتمعنا، تعرقل دورة حياة الشعب وتحدُّ من تفاعله الطبيعي، فتبعثر قواه وتفتته إلى ملل وفئات وقبائل لا حول لها ولا قوة. هذا الداء اعتبره سعاده “من أعظم مشاكل بلادنا الداخلية” ونعته بالداء الفتّاك وبلعنة الأمة.” أما الدكتور سليم الحص، فوصفه بآفة المجتمع اللبناني، مؤكداً ان الطائفية هي “شر مطلق” ومكمن للفساد و”هي العقبة الكأداء في وجه قيام ممارسة ديمقراطية فاعلة في البلاد.”
ومرض الطائفية التاريخي هو مرض نفسي متأصل في أعماق النفوس والضمائر وفي العقول والأذهان والأخلاق.. مرض مستشرٍ في نواحي حياتنا وزواياها كافة: في السلوك والتصرفات وطرق التفكير.. في السياسة والقضاء والأنظمة والقوانين.. في التربية والمدارس والمطبوعات والثقافة والإعلام.. في الإدارة والمؤسسات والدوائر والمنظمات.. وفي كل طيات الشعب ومرافق الدولة وأجهزتها المرتكزة على الطائفية في الأساس. لذلك فإن معالجة هذا المرض لا تكون بالدعوة إلى إلغائه من القوانين والأنظمة فقط، بل باستئصاله من النفوس ايضاً وبتنمية روح المواطنة الصالحة من خلال اعتماد سياسات إعلامية وتربوية وإنمائية.
إن تغلغل الطائفية العميق في نفسية الشعب، يؤدي إلى نتائج سلبية نراها في انقسام المجتمع على نفسه وفي علاقات الطوائف مع بعضها وانكماشها على نفسها وميل كل طائفة إلى التصرف كأقلية مهددة من الآخرين، كما نراها في غياب الولاء الاجتماعي وتعزيز الولاءات الطائفية والمذهبية للمواطنين التي تؤدي إلى تفسيخ المجتمع والقضاء على وحدته وحصول التباعد بين أبناء الوطن الواحد وانهيار العلاقات الإنسانية. فبدل التقارب والتفاهم والاختلاط والتفاعل الإيجابي المنفتح بين أبناء الشعب الواحد، تسود حالات الحذر وعدم الثقة والإنغلاق والتقوقع والانكماش والجفاء والعداوة وهذه عوامل تساهم في إيهان المجتمع وتفسُّخ وحدته إلى أجزاء متنافرة وتؤدي إلى نشوء عادات وتقاليد متباينة وبروز نزعات وعصبيات طائفية، الدين منها براء. هذه العادات والتقاليد والنزعات تغذي النفسية الطائفية وتزيدها حقداً وتجعل بدورها الاختلاط والتفاعل والوئام اصعب واقل إمكانية وابعد احتمالا. إن في حياتنا، يؤكد سعاده، “تقاليد متنافرة مستمدة من أنظمة مؤسساتنا الدينية والمذهبية كان لها أكبر تأثير في اضعاف وحدة الشعب الاجتماعية والاقتصادية..”
والطائفية تسعى دائماً لإستدامة نفسها من خلال الأحزاب والمنظمات والتكتلات والمؤسسات الطائفية التي تتنفس طائفياً وتتكلم بالمنطق الطائفي وتدّعي تمثيلها مصالح الطوائف ورعاياها. هذه الأحزاب والمؤسسات الطائفية المؤسسة على قضايا الحزبيات الدينية، وما يساندها من مدارس وجمعيات طائفية ومن زعامات اقطاعية وطائفية بعضها مرتشيأ بأموال صهيونية وأجنبية، تعمل على اذكاء العصبية الطائفية وتقويتها وترسيخها في النفوس وتساهم في نشرها وزيادة تأصلها وفعاليتها وتحوّل المجتمع إلى مجموعات متنافرة ومعتقلات مذهبية يسودها الحسد والجفاء بدل التعاون والاتحاد فيما بينها على المصلحة المشتركة والوقوف صفاً واحداً في وجه أعداء المجتمع. كما تساهم بإثارة النعرات الدينية والمنافسات الطائفية والضغائن والأحقاد والعداوات والفتن والاصطدامات، وهذه كلها تترك آثاراً سيئة وعواقب وخيمة ونهايات مؤلمة. وهذا ما أكّدَ عليه سعاده، وهو عالم اجتماعي بامتياز، أن “الشقاق الديني والتفرقة والتباعد تُشْقي الأمة وتخرب الوطن.” وفي تاريخنا الحديث أمثلة كثيرة عن شقاء الأمة بالاقتتال والتذابح الطائفيين وبالتدمير الأعمى نتيجة السياسات الدينية وأفعال المنظمات والتكتلات والأحزاب والزعامات الطائفية والاستثمار الخارجي فيها. العصبيات الطائفية هي بوابة العبور للتدخّلات الخارجية الإستعمارية في شؤوننا الداخلية. فعدونا القومي ومعه الدول الأجنبية يستثمرون في مستنقعات الطائفية ومعتقلاتها ويعملون على تأجيج الصراع الطائفي وغرس بذور الفتنة وتعزيز فكرة الأقليات الدينية ومخاوفها بهدف إقامة دويلات طائفية تبرر وجود دولة العدو “اليهودية” وإبقاء البلاد تحت رحمتهم وسيطرتهم.
ومن النتائج السلبية لآفة الطائفيةِ التمييزُ بين المواطنين على أساس انتماءاتهم الطائفية والمذهبية وانعدام العدالة والمساواة بينهم أمام القانون. فلا وجود لمساواة حقيقية بينهم في أسس الحياة – في الحقوق والواجبات – وفي نظم الأحوال الشخصية، الأمر الذي يضع فواصل مصطنعة في صميم حياة الدولة، المجزأة إلى مذاهب متعددة يتمتع كل منها بقوانين خاصة أو يخضع لها، ويساهم في إعادة إنتاج المشكلات المُزمنة وتراكمها وفي تكريس نظام التمييز الطائفي الذي يرفض الاعتراف بالحقوق السياسية والقانونية المتساوية للمواطنين. يضاف إلى ذلك، النتائج المترتبة من تدخل رجال الدين الفعلي في شؤون السياسة والاجتماع والقضاء والتربية والاقتصاد لتحقيق مصالح طوائفهم الخاصة وتمثيلها واشباع رغباتها ونوازعها واراداتها الطائفية.
إن انعدام المساواة بين المواطنين أمام القانون والأنظمة، وتدخل رجال الدين الخطير في شؤون الدولة وهُم في الحقيقة ليسوا من أهل الاختصاص، يؤديان إلى انتفاء وحدة حقيقية في حياة الشعب لافتقاره إلى وحدة الشعور والاتجاه وإلى وحدة المقاييس المدنية لحقوق الأفراد وواجباتهم. كما يؤديان إلى حرمان الدولة من أهل الكفاءة والأهلية والفعالية والتجرد طالما ان اختيار الأشخاص للمناصب الحكومية لا يقوم على أساس الكفاءة بل على أساس التوازن الطائفي والولاءات الطائفية، فالإنتماء الطائفي هو الذي يؤهل الفرد لمنصب ما في الدولة. لذا، إذا ظل القضاء بيد رجال الدين، يستنتج سعاده، “لا يمكن أن تنشأ وحدة عقلية، وحدة نظر واحد في القضايا السياسية الحقوقية في الشعب الواحد، وهذا من أصعب صعوبات توليد الوحدة القومية الصحيحة.”
التعصّب الطائفي الأعمى هو أبشع عوارض داء الطائفية القتّال، وكما يقول العلامة الدكتور خليل سعادة، هو “السرطان القتّال” و”أشد أمراض الشرق بروزاً وأعمها انتشاراً وأشدها فتكاً في النفوس.” فهو تفكير فاسد ومرض نفسي حقيقي راسخ في الأدمغة، وتعصب ذميم شبيه بالعنصرية، ونقيض للتساهل، الذي يعني اللين والرفق السلام. وهو دليل تلاشي روح الدين وقيمه من النفوس الخاضعة له والمروق منه. والتعصّب، الذي يعتبره الأديب سليمان البستاني “الآفة الكبرى التي نخرت عظام البشر قرونا طوالا، ولا تزال في بلاد الشرق علة العلل”، هو برأي أديب اسحق، “الغلو في الدين والرأي إلى حد التحامل على من خالفهما بشيء فيما يدين وما يرى.” فالمتعصب يغرق في استنكار ما يكون على ضد اعتقاده و”يحمله الإغراق والغلو على اقتياد الناس لرأيه بقوة، ومنعهم من اظهار ما يعتقدون..” وكما إنَّ الخير هو ضد الشر، والعدل ضد الظلم، كذلك الأمر فإن التساهل، الذي لا ينكره الانجيل ولا القرآن، هو ضد التعصّب ويعني احترام رأي الغير والتسامح بوجود ما يخالفك. والتساهل الديني، كما يقول أمين الريحاني، “هو الاعتبار والاحترام الواجب علينا اظهارهما نحو المذاهب المتمسك بها آخرون من أبناء جنسنا ولو كانت هذه المذاهب مناقضة لمذاهبنا.” ودعا الريحاني السوريين إلى الترفع عن الأهواء والتساهل في الدين والتخلي عن سياسة الجبن واللؤم والخيانة والأيدي الخفية التي بسببها يظل أبناء الأمة الواحدة منقسمين منفردين عاجزين عن العمل مشمولين بالخمول ومكتفين بالجهل، فيتسلط عليهم شعب آخر أو أمة غريبة فيبقون أذلاء جبناء إلى ما شاء الله.” ولأن التساهل هو أساس التمدن والتقدم والارتقاء، يتساءل الريحاني: “متى تزول الشقاقات الدينية ويداس التعصّب تحت نعال المدنية؟”
إن الخروج من الواقع الطائفي يستوجب الإصلاح الحقيقي والتخلي عن السياسات الدينية والحزبيات الدينية والتعصّب الديني الذي يفسد الأخلاق ويعمي البصائر. “إن كل سياسة دينية”، يقول سعاده، “هي عمل إجرامي ضد مصلحة الأمة، وان كل الأحزاب الدينية في لبنان وخارجه هي أحزاب رجعية منافية للعمل القومي الصحيح.” إن الإنقاذ الفعلي لا يحصل بقوميات طائفية اصطناعية، بل بتوحيد الشعب بقومية حقيقية، أصلية، جامعة، وبإيقاظ وجدانه القومي لحقيقته الاجتماعية ولمصالحه المشتركة ومصيره الواحد.
والإنقاذ الفعلي من التعصّب الديني يكون بالقضاء على كل قضايا الحزبية الدينية وعقليتها وطرق تفكيرها وأهدافها.. والمسار الصحيح لتحقيق هذا الإنقاذ هو بالاتجاه إلى الأرض والشعب ومحبتهما، وبالعمل على توليد العصبية القومية الصحيحة التي تربط الأفراد بعضهم ببعض، فتصرفهم عن التعصّب الديني وتحوّل ولاءَهم الكامل إلى محبة المجتمع وخدمته، وبالسعي لتحقيق وحدة الشعب الاجتماعية التي بوجودها تزول العصبيات الدينية وآثارها السلبية وتضمحل الأحقاد وتحل المحبة والتسامح القوميان محلها ويفسح المجال للتضامن والتعاون وتنتفي مسببات التدخلات الأجنبية في شؤوننا الداخلية.
إن “الإصلاح القومي، الذي جاءت به الرسالة القومية الاجتماعية إلى سورية، وسائر الأقطار العربية، هو الذي يتكفَّل بإنقاذ الأمة السورية، وأمم العالم العربي المحمدية طراً، من دعاوات الحقد والتعصّب المذهبي، التي ينشرها المفتون برأيهم الجاهل، فتحلّ سكينة المحبة والإخاء القومي محل فتن التعصّبات الدينية العمياء الذميمة، ولا تبقي لهذه الفتن محلاً ولا سبيلاً.