حوار مجلة صباح الخير –البناء مع د. ابراهيم خلايلي حول:
دور سوريا في حضارة المغرب العربي الكبير
(محطاته، نماذجه، مظاهره…)
(نماذج ونقوش ودلالات أثرية من العصر الكنعاني)
الجزء الأول
د. ابراهيم خلايلي
حاوره إبراهيم مهنا
سؤال:
دكتور ابراهيم، هل يمكن أن تعرض لنا للدور السوري التاريخي في المغرب العربي الكبير؟ كيف تشكل وكيف انحسر؟
جواب:
يُعَدُّ البحث في حضارة المغرب العربي الكبير -وغرب المتوسط في الألف الأولى ق.م عموماً- استكمالاً للبحث في حضارة سوريا الكنعانية بدءاً من اختراع الكتابة في أواخر الألف الرابعة ق.م، وتبدو فصول الحضارة الكنعانية المغاربية في الألف الأولى ق.م –وحتى ما بعدها- موازيةً ومكمّلِةً لفصول الحضارة السورية، أما الرابط الرئيس المستمر بين الطرفين فهو اللغة العربية، الأخت الكبرى للّهجات السورية القديمة- والتي –أي اللغة العربية- لا يمكن أن تحمل اسماً آخر استناداً إلى تاريخها الطويل، وبكمٍّ هائلٍ من المعطيات.
لقد استمر اسم “كنعاني” طويلاً خلال الألف الأولى ق.م في بعض النقوش، [مثل نقش البرازيل العائد إلى أواخر القرن الثاني ق.م، حيث جاء فيه (ن ح ن ا ب ن ك ن ع ن) أي: (نحن بني كنعان)، كما استمر اسم كنعان أيضاً في الألف الأولى الميلادية، فسكان المغرب العربي على سبيل المثال كانوا يسمون أنفسهم كنعانيين حتى القرن السادس الميلادي، ومن المعروف أن الكنعانيين قد سجّلوا حضورهم في المغرب العربي وغرب المتوسط وأسسوا هناك مدناً منذ القرن الحادي عشر ق.م، ففي أواخر الألف الثانية ق.م، استثمر الكنعانيون السوريون بعض الظروف العسكرية والتقنية –ومنها أفول نجم الأسطول الإيجي وتطور بناء السفن وعلم الابحار الكنعاني- فأقاموا جسراً عملاقاً بين حوضيْ البحر الأبيض المتوسط الشرقي والغربي، وأضحت أساطيلهم تصل بين ضفاف المتوسط مستندةً إلى جزره ومرافئه الطبيعية، وحلّوا في العديد من تلك الجزر واتصلوا بسواحل المغرب العربي.
لذا فمصطلح “العصر الكنعاني” يلائم وصف ذلك العصر المتوسطي الذي ازدهرت فيه الحضارة الكنعانية السورية في المشرق والمغرب منذ مطلع الألف الثالث وحتى أواخر الألف الأول ق.م، وذلك كعنوان كبير يجمع الحِقَبَ والأماكن التي شهدتها تلك الحضارة.
وللإشارة، لم ينحسر دور سوريا في حضارة المغرب العربي الكبير، فقد استمرت تأثيراته حتى في القرون الميلادية الأولى، وانعكس هذا التأثير إيجابياً في زمن الفتوحات العربية.
-سؤال:
هل لك أن تحدثنا عن محطات الحضارة الكنعانية السورية في المغرب العربي ونماذجها الأثرية التي تعكس الروابط والجذور مع سوريا القديمة؟ وما هي مجالات تأثير هذه الحضارة ومظاهرها، سواء السياسية والثقافية والفنية المعمارية والاقتصادية والدينية الاعتقادية، ثم اللغوية؟
جواب:
تحدث المؤرخون القدامى عن الحضور الكنعاني في الأقطار المغاربية التي كانت تدعى بلاد “لوبة القديمة” والتي يعد المكوِّن العربي القديم أحد مكوناتها. (“لوبة” هو الاسم الذي تسمّت به مناطق شمال افريقيا الممتدّة مما وراء السرت الأكبر الى المحيط الأطلسي، و”اللوبيون” اسمٌ وارد في نقش عُثر عليه في مدينة “مكثر” على بعد 150 كم إلى الجنوب الغربي من قرطاجة (شد لوبيم=أرض اللوبيين) ويؤكد الباحثون التونسيون أن “اللوبيين” هم السكان الأصليون في المغرب العربي، وهم خليط من عناصر محلية وكنعانية وأخرى آتية من الجزيرة العربية، بينما لا وجود لتسميات “أمازيغ” أو “بربر” في التاريخ المغاربي القديم، بل هي تسميات ظهرت في العصر الوسيط…
ومن المدن التي أسسها السوريون الكنعانيون في تونس، “أوتيكا” و”قرطاجة” و”هبيون” -التي تدعى اليوم “بنزرت”- و”هدروميتوم” –سـوسـة الحالية على الساحل التونسي- وثمة مدينة “لمطة” على الشاطئ جنوب سـوسـة، و”كركوان” على الساحل المتوسطي.
وعلى السواحل الغربية الليبية أقام السوريون الكنعانيون مدن “لفقي” و”ويّة” و”سبراطة” و”لبدا”-مسقط رأسِ سبطيم سفير، امبراطور روما في الفترة الواقعة ما بين 193-211م- وهناك مدينة “ليكش” (ليكسوس) على الضفة الجنوبية من المضيق الفاصل بين إسبانيا والمغرب الأقصى، ومدينة “تفاشة” المعروفة اليوم باسم “تبازة” وتقع غرب مدينة الجزائر، وكذلك قرتا –قسنطينة الحالية-… أما الشريط الساحلي الجزائري من “هيبوريجيوس” (عنابة) إلى “جنجن” (غوراية) فيعكس التأثير الكنعاني القرطاجي في المنطقة وخاصةً من خلال التجارة، وفي غرب الجزائر على طول الساحل الوهراني، ثمة شواهد على حضور كنعاني في القرنين السابع والسادس ق.م، وربما وجدت هذه الشواهد غربي وهران في “أندلسيات” وفي “أرشقون” –تلك الجُزيِّرة الواقعة بالقرب من نهر “سيجا” (طفنة)- وفي هذه المنطقة فإن المقبرة القديمة والمعمرة الساحلية قدّمت شواهد على حضور كنعاني يعود إلى القرن السابع ق.م، وقد دلّ الفخار المبكر المصنوع يدوياً وبواسطة الدولاب على أنه مختلف عن فخار قرطاجة، ومطابق للأنواع الكنعانية المشرقية التي كانت منتشرة على الساحل الأندلسي الاسباني والذي يبعد عن المنطقة المذكورة 165كم، مما يشير إلى روابط بين كلا المنطقتين المتوسطيتين الغربيتين مع المشرق الكنعاني.
وهكذا فحول خليج تونس بدأت مسيرة كنعانيي سوريا في المغرب العربي، وتعد “أوتيكا” و”قرطاجة” أقدم وأهم مدينتين كنعانيتين على الطريق المؤدية إلى المتوسط المركزي والغرب البعيد، وقد برزت بعدهما مدينة “كركوان”…
1-أوتيكا:
أُسِست “أوتيكا” –الواقعة على الساحل التونسي وعلى بعد 30كم شمال العاصمة تونس- قبل “قرطاجة” بمئتين وسبعٍ وثمانين سنة أي سنة 1101 ق.م وبعد تأسيس “جديرة” سنة 1104 ق.م…وحسب المؤرخ الروماني “إبلينوس”(23-79م) فقد أُقيم معبد “أبولو” –ملقرت الكنعاني- في “أوتيكا” سنة تأسيسها، وقد كتب هذا المؤرخ سنة 77م قائلاً: “إن العارضات الخشبية الأرزية التي سُقف بها معبد أبولو، هي نفسها التي انتصبت في “أوتيكا” عند تأسيسها قبل (ألف ومئة وثمانية وسبعين عاماً).
وقد كشفت الدراسات الطبوغرافية التي أُجريت في تسعينات القرن الماضي عن أن “أوتيكا” كانت تقع على رأس ساحلي (شناخ) بجُزَيِّرةٍ تحمل شكل المعمرة الكنعانية وأسلوبها.
2-قرطاجة:
هي أعظم مدن الكنعانيين وأجلُّها في المغرب العربي الكبير، تمكنت بفضل سيادتها السياسية والتجارية من أن تكون امبراطورية، امتدت في القرن السادس ق.م من حدود “لوبة” إلى أعمدة هرقل، وضمت جزر البليار ومالطة وسردينيا وبعض المواقع على ساحل إسبانيا والغال، وقد جعلها ذلك أكثر شهرة من أمها صور…
تتلاقى النصوص القديمة والأدلة الأثرية لتثبت أن تأسيس قرطاجة يعود إلى نهاية القرن التاسع ق.م، وقد جاءت أخبار تأسيس المدينة من خلال أسطورة (أليسار) التي يؤكّد بعض ما جاء فيها، ما احتوته حوليات صور من أن أليسار غادرتها وأسست قرطاجة في السنة السابعة لحكم أخيها بجماليون (814-803ق.م).
وقد مكّنتنا التنقيبات في موقع قرطاجة من تكوين صورة عن الملف الأثري القرطاجي وارتباطه بسوريا، وذلك من خلال المعطيات الآتية:
أ-العمارة:
أثبتت حفريات التسعينات من القرن الماضي في قرطاجة وجود أطلالٍ كنعانية تعود إلى القرن الثامن ق.م، ولعل أهمها الحفريات التي تمت في “تل بيرصة” بالمدينة والتي كشفت عن بناء سكني يغطي مئتيْ عام من القرن الثامن إلى القرن السادس ق.م، ويطابق مخطط هذا البناء مخططات البيوت القديمة في شمال سوريا العائدة إلى فترة البرونز المتأخر، الأمر الذي يعكس الاستمرارية في التقاليد المعمارية، ففي الطبقة الثانية من البناء المكتشف تألّف البيت من بناء مستطيل طويل له فناء كبير وسلسلة من أربع غرف اتّضعت طولياً على شكل أزواج في الخلف، أما الطبقة الثالثة من البناء فكشفت داخل البيت القرطاجي ساحة وأربع غرف سكنية، واحدة كبيرة أساسية، وثلاث غرف موازية في الأمام، وهذا النمط مألوف في سوريا القديمة، فالبيت القرطاجي بشكل عام يحكي الأسلوب المعماري الذي وُجد -على سبيل المثال- في “صور” المدينة الأم.
ب-الفخاريات
قدّمت طبقات معبد “صلامبو” في قرطاجة آلاف الأُرَن والجرار الفخارية التي استُخدمت لأغراض دينية، يعود أقدمها إلى القرن الثامن ق.م، وقد تميزت بأنها أُرَن حمراء لامعة مزينة بخطوط سوداء تطابق أُرَن مدينة أوغاريت الكنعانية السورية في النصف الثاني من الألف الثاني ق.م… ولعلها إشارةٌ من بين آلاف الإشارات التي يجب التقاطها في إطار الحديث عن التواصل الحضاري ووحدة الأصول الثقافية بين سوريا الكنعانية والمغرب.
ومن التماثيل القرطاجية الفخارية تمثالان لامرأتين تعتلي كلتاهما عرشاً وتضع الأولى يدها اليمنى على بطنها، أما الثانية فقد حملت مروحة بيدها، والثوب الذي غطّى كليهما لا يُظهر من الجسم إلا الوجه والذراعين والقدمين، ويعود التمثالان إلى القرن السادس ق.م ويحملان طابعاً سورياً…
ج-العاجيات
اعتُبر النحت العاجي من أهم العناصر الحرفية الكنعانية، وقد أخذ بالنمو في المنطقة السورية، وشهدت أشكالاً منه كل من آلالاخ وأوغاريت (في الشام) ولكيش ومجدّو(في فلسطين)، واستمر الانتاج الكنعاني من القرن الثالث عشر وحتى السابع ق.م حاملاً تأثيرات مصرية وإيجية. ونظراً لحجم التواصل الحضاري بين سوريا والمغرب في الحقبة القرطاجية، فقد ذهب بعض الباحثين إلى القول إن انعدام وجود الفيلة في سوريا –مصدرِ عاج الكنعانيين- في الألف الأول ق.م وتحديداً في القرن الثامن منه، جعل القطع العاجية القرطاجية الأولى –والعائدة إلى القرن السابع ق.م- استمراراً للإنتاج السوري…
ومن أهم الأدوات العاجية القرطاجية التي عُثر على نماذج منها في سوريا، قطعة من القرن السابع ق.م، عُثر عليها في “تل يونو” اتخذت شكل إلهة واقفة تلبس ثوباً مزركشاً ذا زنّار يصل حتى القدمين، أما شكل الرأس فقد حمل الأسلوب المصري- الكنعاني، وقد ضُمَّت اليدان إلى الصدر وأمسكتا بالثديين.
د-قشور بيض النعام:
نظراً لقيمة البيض الرمزية فقد بدأ استخدام قشور بيض النعام المزينة بالألوان كودائع في قبور قرطاجة منذ القرن السابع وحتى الثاني ق.م، وذلك على غرار سوريا القديمة التي عرفت حضارتها قشور بيض النعام واستخدمتها في القبور منذ الألف الثالث ق.م، وقد تنوعت الأدوات المصنعة من قشور بيض النعام في قرطاجة لتشمل الأقنعة والأواني والأكواب والأطباق.
هـ-المجوهرات:
راجت مهنة صياغة المجوهرات عن طريق تجارة المعادن عبر المتوسط وكانت مرتبطة بالتقاليد الفنية القديمة لسوريا، فمدينة “جبيل” –على سبيل المثال وفي الألفين الثالث والثاني ق.م- قدّمت أمثلة جيدة تمثلت في الصدريات والقلادات الذهبية المشغولة بفنّيْ “النقش المُنتبر” و”صفحة المينا”…وتأتي مجوهرات “غزة” و”أوغاريت” مستبقةً الأشكال والعناصر التي حملتها مجوهرات الألف الأول ق.م، وهي فترة شهدت تأسيس مدن في المغرب العربي وغرب المتوسط، فأضحت المجوهرات أحد أهم منتجات الحِرَف الكنعانية المغربية، ويعتبر التمييز بينها –سواء كانت سورية أو مغربية- أمراً صعباً على الباحثين، وذلك بسبب تجانسها، وبسبب النزعة التقليدية العميقة الجذور.
وقد شملت التركة الأثرية القرطاجية من المجوهرات، الأقراط والأساور والخواتم والقلادات والميداليات والحلقات والتمائم والعقود وأشكال الجعلان، وحمل بعض هذه اللقى تأثيرات سوريا الكنعانية ومصر واليونان، كما صوّر رموزاً دينية أصولها سورية كالثور والكبش والأفعى، والهلال والقرص، وقرص الشمس المجنح، ورموز بعض الآلهة القرطاجية وأهمها الإلهة الأم “تانيت”.
و-الآثار المعدنية
في الوقت الذي بلغ فيه الصاغة القرطاجيون مرحلة كمال حقيقي في صياغة المعادن الثمينة، كانت قرطاجة مسؤولة عن إنتاج شواهد قيّمة من الأدوات المعدنية الأخرى بلغت ذروة إتقانها في الأدوات البرونزية كالمحالق التي صُوِّرت عليها مواضيع دينية وميثولوجية اعتُبرت خليطاً من أفكار “إقنوغرافية” كنعانية سورية ومصرية، وأخرى أجنبية إغريقية وأتروسكية، أما أهم تلك التأثيرات فكانت مصرية وكنعانية، حيث حمل بعض المحالق أشكال آلهة مصرية مثل “إسيس” تحتضن “حورس”، و”حورس رع”، وآلهة كنعانية سورية مثل “ملقرت” و”رشف”.
ز-النقود:
بعد أن سكّت مدينة صور العملة في منتصف القرن الخامس ق.م، تبعها في أواخره كل من صيدا وجبيل وأرواد وقرطاجة…أما أول النقود القرطاجية، فكان من الذهب والفضة، سُكَّ عام 410 ق.م وحمل اسم المدينة بالكنعانية “قرت حدشت” أي المدينة الجديدة، كما حملت هذه النقود على وجوهها صورة الإلهة الكنعانية “تانيت”، بينما حملت ظهورها صورة رأس حصان أو حصاناً ونخلة وأحياناً أسداً ونخلة.. وكان رأس الإلهة “تانيت” أهم ما يميّز النقود القرطاجية، وبدرجة مماثلة في الأهمية يظهر الحصان –ورأس الحصان-على تلك النقود كصفة مميزة لمعظم الاصدارات وحتى نهاية قرطاجة عام 146 ق.م، ويرى باحثون أنه رمز للّوبيين أو لإله الحرب أو إله الشمس.
ح-النُّصُب:
النُّصُب فكرة قديمة درج استعمالها ابتداءً من منتصف الألف الثالث ق.م في سوريا القديمة لتخليد الحوادث المختلفة بالصورة والكلمة، وقد اعتُبر نصب “العقبان” الأثر الأول من هذا النوع، عُثر عليه في “جرسو” بالعراق، ويعود إلى عصر السلالات الباكرة الثالث، حمل كتابات ومشاهد مثلت أول معاهدة تاريخية معروفة بين ملكيْ “لكش” و”أوما.
وقد تعمّم هذا الابتكار السومري، واستخدمه الكنعانيون فيما بعد ووصل إلى المغرب العربي الذي أنتج الأنصاب بكثرة.
ولعل من أهم النُّصُب الكنعانية التي تُعتَبر نماذج لبعض الأنماط المشابهة لها في المغرب العربي، نصبٌ من مدينة “عمريت” الكنعانية السورية، أُرِّخ بين القرنين التاسع والسادس ق.م، وهو يصوّر رجلاً يمتطي أسداً، ويرتدي الرجل لباس رأس مصري وأُزرة مصرية شاهراً هراوة بيده اليمنى المرفوعة، ويمسك بذراعه الأيسر شبلاً، ويبدو الأسد متجهاً بالرجل نحو جبل صخري، قمة هذا النصب مقوّسة ويظهر عليها قرص شمس مجنّح وأسفله قرص آخر وهلال، وهي رموز تكرر ظهورها على أنصاب المغرب العربي في الألف الأولى ق.م.
وهناك نصب “يحاو ملك” من مدينة “جبيل” والعائد إلى أواخر القرن الخامس ق.م، يصوّر ملكاً واقفاً أمام إلهة جالسة على العرش ويقدّم لها كوباً، وترتدي الإلهة ثوباً طويلاً ويعلو رأسها قرص مصري محفوف بقرنين، أما يداها فتحمل إحداها صولجاناً طويلاً يشبه ساق نبات البردي، والثانية مرفوعة في حركة تبريك.
وقد قدّمت مدينة قرطاجة آلاف النُّصُب التي عُثر عليها خاصةً في منطقة المعبد المقدس، ووظيفة هذه النُّصُب دينية نذرية صورت أيضاً طبيعة قرطاجة وحياتها وتقاليدها وعاداتها من النواحي الدينية واللغوية والاجتماعية والفنية الحرفية…ومحاكاةً لنُصب سوريا الكنعانية، حملت نُصب قرطاجة رموز المدينة كرمز الإلهة تانيت، والقرص والهلال (المزدوج السماوي) وقرص الشمس المجنح والقيروق (صولجان هرمز) ورمز القنّينة والكف المبسوطة المرفوعة وزهرة اللوتس المصرية (النيلوفر) والأشكال الهندسية والحيوانية والنباتية –كالنخيل- والسفينة والآلات الزراعية وصور الأشخاص…هذا بالإضافة إلى النقوش التي سُطرت على بعض النُّصُب بالكنعانية، مشيرةً إلى الحياة الدينية والاجتماعية واللغوية والسياسية…
ويجدر بالذكر أن رمز الإلهة تانيت الذي يلازم جل النُّصُب القرطاجية، يحمل شكل مثلث متساوي الساقين وقرصاً، يفصل بينهما قضيب أفقي تمثّل نهايتاه ساعدين، بما يشبه امرأةً ترتدي ثوباً طويلاً وترفع ذراعيها، وقد شوهد هذا الرمز على مكتشفات مؤرخة ما بين القرنين الرابع والثاني ق.م، منها أيقونات عُثر عليها في سفينة غارقة قرب مدينة عكّا الفلسطينية المحتلّة، وموازين رصاصية عُثر عليها في “أم العواميد” و”بيروت”، وقناديل فخارية وُجدت قرب مدينة طيبة المصرية.
وللإشارة فالموطن الأم للإلهة القرطاجية “تانيت” هو سوريا الكنعانية، ويدعم هذه المعلومة نقشان مسطوران، الأول مكتشف في قرطاجة، سُطرت عليه عبارة “تانيت لبنان”، والثاني ذُكرت فيه “تانيت” إلى جانب الإلهة الكنعانية السورية الأم “عشترت”، ويعود إلى القرن السابع-السادس ق.م، وقد عُثر عليه في “سربتا” بالقرب من مدينة صيدا اللبنانية، وهو يمثّل نذراً للإلهتين.
وتحتل نُصب مدينة سوسة في تونس أهمية كبيرة إلى جانب نُصب قرطاجة، وهي تغطي فترة تمتد من القرن السادس ق.م وحتى القرن الثاني الميلادي، أما أنماط تلك النُصب فمشتقةٌ مباشرةً من الأنماط الكنعانية السورية.
وقد برز من ملامح نُصب سوسة ورموزها، رمز “تانيت” و”المزدوج السماوي” و”قرص الشمس المجنح” و”القيروق” و”القنينة” و”اليد المرفوعة” و”زهرة اللوتس” وأشكال الآلهة والأشخاص والحيوانات والزخارف النباتية والهندسية والمذبح والمحرقة و”البياتل”.
وهكذا تقدّم نصب سوسة أدلّة أثرية ممتازة على ثبات قيم الحضارة الكنعانية السورية واستمرارها في المغرب العربي رغم الغزو الروماني ورغم أفول نجم العاصمة قرطاجة.
نهاية الجزء الأول
يتبع في الجزء الثاني…