إلى أين يا وليد؟ في انتظار الباص إلى رام الله

إلى أين يا وليد؟ في انتظار الباص إلى رام الله

مساء يوم الأحد 7 نيسان 2024 وبعد الإفطار الرمضاني بقليل وخلال قيام الصلاة، وعلى عيد الفطر المبارك، وفي اليوم ال 185 من الحرب الصهيونية الدموية على قطاع غزة، صعدت روح الشهيد الأسير وليد دقة في مستشفى اساف هاروفيه الإسرائيلي بعد معاناة طويلة مع مرض السرطان، وكانت شهقته الأخيرة بعد انتظار زاد عن 38 عاماً بالسجن: حرر نفسك بنفسك يا وليد، ثم صعدت درجات روحه وحرر الاسلاك الطبية والأجهزة عن جسده، واغتسل بزيت زيتونة أم الرومي وعاد رام الله.
إلى أين يا وليد؟ كل شيء من حولك مرعب ومغلق، الغارات الجوية، والقصف المتواصل، والاعدامات الميدانية، والاعتقالات الجماعية، والجرائم الطبية، والتجويع والاخفاء والعزل والتشريد والقتل من اجل القتل، قمع همجي وسادي في ساحات السجون، وضرب وتعذيب وادلال، فلا مجال يا وليد من الخروج من الزنزانة المحاطة بالحراس وبكل أنواع الأسلحة.
وكان رد وليد دقة: علينا ان نستعيد الوعي باستعادة الإرادة المسلوبة، فصدقية الطريق لا تحتاج إلى برهان، فهي واضحة وضوح القيد، وعندما احرر السجن من ذاتي، تزول كل آفات وامراض الاحتلال، فجبروت وبطش الدولة النووية وترسانتها من أدوات التنكيل والقهر لن تصمد طويلاً امام فجر الميلاد والامل القادم حتماً.
كشفت مذكرات الأسير المحرر وعضو الكنيست السابق باسل غطاس والتي جاءت بعنوان (أوراق السجن، من أروقة الكنيست إلى السجون الإسرائيلي) والتي دونها خلال عامين قضاهما في السجون، عن اضمحلال وتلاشي روح النكتة والفكاهة لدى الأسرى مع مرور الزمن، وغياب الابتسامة عن وجوههم باستثناء الأسير وليد دقة الذي حافظ رغم مرور 37 عاماً في السجن على روحه المرحة، وكان في كل مرة يخرج فيها إلى العيادة أو إلى المستشفى لتلقي العلاج من مرض السرطان الذي أصابه، وسأله أحدهم: إلى أين يا وليد؟ أجاب في انتظار الباص إلى رام الله.
ظل وليد دقة يتقيأ السجن من داخله حتى حطم أنيابه التي أرادت أن تقوضه وتلتهمه وتحوله نسياً منسياً، وهو الذي واجه السجن وظروفه الفظيعة بالحفاظ على عقله وروحه وإرادته حتى هزم هذا السجن وأصبح طليقاً رمزاً وقيمة ثقافية وحاضراً في كل بيت ومدرسة.
إلى أين يا وليد؟ في انتظار الباص إلى رام الله، وضبت كل حاجياتي، وكراريسي وخربشاتي، ورسائلي الكثيرة، وملابسي وأدويتي وأرقامي المتسلسلة، جاهزاً للعودة في اللغة المتحولة من قيد إلى أفق يستطيع أن يجعل المستحيل ليس مستحيلاً، فاللغة في السجن أمل وأغنية، فأساً تهدم الجدار ونظام السيطرة، وتوسع رقعة الحرية لتستقبلني الشمس التي أرها منذ زمن بعيد، ولو قاتلنا فقط بالأحلام لما صمد كابوس الليل مرة واحدة.
أعددت كل شيء البيت والحارة والطريق الذي سأسلكه، والأشجار التي زرعتها وكبرت، ولون الورد على شرفات الذاكرة، وألقيت السلام على أهلي وجيراني ومدرستي وخطواتي الأولى، عائداً من السجن أحمل حجراً من حجارة قلبي وأغنية، هذه ذكرياتي التي لا تحتاج إلى مؤرخين جدد ليكتشفوني حياً أو ميتاً، أو متحجراً في أرشيف عسكري أو مكتبة، لا أحتاج إلى من بعيد إنتاجي هيكلاً عظيماً دون صوت ولسان، أنا لم يقتلني الملح والغياب والسرطان والنسيان، أنا في الباص إلى رام الله.
لا تستغربوا، أنا في الطريق إلى رام الله، تحايلت على السجن والموت والأطباء الذين يرتدون لباس السجان، كان صوتي يقفز من زنزانة إلى زنزانة، الصوت كائن حي له صدى وحياة وبلاغة، يجعل اللامعقول معقولاً في ملحمة الكرامة والكبرياء، صوتي حرية، ويكفي أنه يتسرب من شقوق الباب، يسمعه الجلادون، صوتي له يد وقلم ونطفة ورسالة وكتاب، صوتي يدلني على مواعيد اللقاء بوطني، فالوطن ليس مبان حجرية أو رقم حساب.
دولة الاحتلال الصهيوني أغلقت كل المداخل إلى رام الله، وأقامت الحواجز والمتاريس، وليد دقة قادم في حكاياته التي بنت كل الجهات المهدومة والمنهوبة في الزمان والمكان، حدود وطنه هي وجوده الحقيقي، يعود خيالاً ورائحة وعاطفة ومترادفات، وبخطوات متقطعة الأنفاس، يعود إلى زوجته سناء وطفلته الجميلة ميلاد، يعانق ظله ضوء الوقت المتسارع ليصير هو الوقت كله، حاضراً حاضراً وتشتعل في صدره النبضات، يعود وليد ليلعن الفراغ وعواء الفولاذ والغيبوبة التي تخنق أجساد السجناء.
إلى أين يا وليد؟ في انتظار الباص إلى رام الله، حرية الأسير هي الإيقاع في شوارع خالية، إيقاع الناس وهم ينهضون من الصمت والتراب، إيقاع الرياح وهي تدربك على الطيران فوق الساحل والكرمل لكل ما ملكت أجنحة وحواس.
تأخر وليد دقة، الكل في انتظاره، هذا الباص يتوقف طويلاً عند كل سجن، كومة من الكلبشات والهراوات يحملها رجال النحشون، المسؤولون عن نقل الأسرى، يوزعونهم على كل السجون والمستشفيات والمقابر والثلاجات الباردة، يتحركون من النقب حتى الرملة، هي رحلة الجحيم في سيارة البوسطة المغلقة التي تستغرق أكثر من عشر ساعات، لكنك يا وليد أصبحت على مشارف رام الله، لا بأس، حاجزاً أو عشرون مستوطنة، لا بأس، يلتف على جدار ليصبح من جسدك شارعاً آخر يقطع أرضاً أو يجرف مكاناً أو يفرم لحماً ويقتل الحرب الصهيونية الدموية على قطاع غزة، صعدت روح الشهيد شجرة، لا بأس، المدينة تتراءى أمامك وإن بدت صغيرة من بين بعد الشبك، هذا الجدار لم يكن في ذكرياتك القديمة، لا بأس، أعد وكانت شهقته الأخيرة بعد ترتيب الصور، رائحة إطارات كوشوك محترقة على مدخل بيت ايل، أولاد يقذفون الحجارة، لا بأس، سناء تنتظرك فافتح النافذة ان استطعت لترى حلمك نجمة على صدرها متلألئة انظر جيدا تراها ،يسقط الغامض والتورية والاقنعة .
بالتقسيط أرادوا ان يقتلوك دفعة دفعة ولا ندري أي محطة سيقف الباص، في قريتك باقة الغربية أم في رام الله، في ثلاجة متجمدة أم في مقبرة؟ لا ندري سوى ما يقوله نهرك الجارف في ذاتك وأعماقك، يغيب الجسد كثيراً ولكن لا تغيب الكلمة، هذا دينك وإيمانك، فرع في الأرض وجذر في السماء، بين الموت والحياة طفلتي ميلاد، حمداً لله فقد امتلأت تماماً بالحب في الدنيا والآخرة.
انتظر الباص إلى رام الله، أحمل لكم أيها الناس دفاتر الحب والمقاومة، سر الطيف وسر الزيت وسر السيف، الأسرار الثلاثية للأجيال المتوثبة القادمة، التقيت بها في غرف التحقيق وفي المظاهرة، وفي حصة الدرس، جيل ينبت في الآخر، إسرائيل المخترعة لم تستطع إعدام نسلنا الممتد في التاريخ ثقافةً وعلماً وهوية، عائدون إليكم، ليس عبر الجسور أو التصاريح كسائح بلا مواطنة، عائد إلى حبيبتي وبلدي، دمي لم يغادر أصلاً الأرض حتى بعد أن بتروني إلى نصفين: نصف في السجن، ونصف في البيت، الأول والثاني يتدافعان ولا ينقسمان جسداً ووعياً ومخيلة.
في المحكمة العسكرية اتهموني بتهريب أجهزة خلوية، اعترفت فوراً وضربت الطاولة، قلت لهم: أريد أن أتحدث مع سناء وابنتي ميلاد، هذا حقي الإنساني والقانوني والاجتماعي الذي كفلته كل مواثيق العالم، لست شبحاً لأراها من خلف زجاج، أريد ان أملي على زوجتي اسم ولدنا القادم وحكايتي الرابعة، حرفاً حرفاً وهمسةً همسةً قبل أن تداهموا غرفتي في السجن، وتكسروا أصابعي والأقلام يكفي أن أكتب عن الغد بعد قليل لأصل إلى الغد بعد قليل، ويكفي أن أكتب عن الماء لأرتوي في هذه الصحراء.
أنا في الباص إلى رام الله، لقد أنهى الأطباء إجراء كل الفحوصات اللازمة، حملوني مربوطاً بأسطوانة وأنبوبة أكسجين، استأصلوا من رئتي الجهة السابعة التي أتنفس منها، صادروا أقلامي وكلامي وضعوا جهازاً على فمي أكملوا عملهم كله وأخذوني إلى الباص وعلقوا فوق رأسي ساعة للموت، ورفضوا ان أودع أصدقائي في عيادة مستشفى الرملة، خالد الشاويش ومنصور موقدة وناهض الأقرع ومعتصم رداد، رفضوا أن آخذ معي قطعاً من أجسادهم المبتورة أو سعالهم الساخن، وتركتهم يعدون التوابيت ويطلقون لحاهم حداداً على أنفسهم، وتركوني أسافر كي لا أتأخر عن ترتيب مراسيم الجنازة.
إلى أين يا وليد؟ انتظر الباص إلى رام الله، لا تصدقوا أن الباص سيتجه إلى مستشفى برزلاي أو عيادة الرملة، الباص في الطريق إلى رام الله، وهناك سأضع إكليل ورد على ضريح الشهيد ياسر عرفات، وأزور عائلة الشهيد ناصر أبو حميد، وسأزور بيت نائل البرغوثي وأنقل التحيات إلى عائلتي مروان البرغوثي وأحمد سعدات، وسأزور عائلة الأسير الكفيف علاء البازيان في القدس، وأقول له لست بأعمى وإنما نحن جوقة العميان، وسأجلس قرب الأسود في دوار المنارة برام الله، وأصافح كل الأصدقاء والأحباء، وسيأخذني الباص إلى نابلس عرين الأسود وإلى جنين وبيت الشيخ خضر عدنان، وسأكتب على جدارية المخيمات: المخيم تاريخ الحنين من الاقتلاع إلى الوجود، شكراً لمخيم جنين الذي يكسر الضوء الباهت من الهامش الضائع إلى الحضور الكثيف كالاشتباك، ومن الرصيف إلى الرصيف رأيت راية بشرية تقطع الخط الفاصل بين هنا وهناك.
لقد وصلت رام الله الآن، كسرت الزمن الموازي الدائري في السجن، لم ينشف قلبي كما ظنوا ولا الحبر، قلت أن الواقعي الفلسطيني، يهزم الخرافي الصهيوني، وأن الزمن الروحي والعقلي للأسرى يهزم زمن الباطل الصهيوني وجرائمهم الأثمة، الدبابة التي تطارد الأولاد المقدسيين في الشيخ جراح وباب العامود لا تطارد سوى الأفكار والأعلام الفلسطينية والجداريات وتاريخنا العميق والمعنى المقدس في الصمود وفي الصلاة.
نعم، وصلت رام الله، لم يقبض على السجان، ولم يوش رجال الكابو. حاربت في الداخل والخارج حتى تحطم جدار السجن عن ذاتي وصرت حراً، نزلت من البوسطة الحديدية، ألقيت السلام على باقة الغربية والناصرة، لا زلت أعرف الأبعاد والاتجاهات ولا أتوه في الجغرافيا والديموغرافيا والطرق المعبدة أو الوعرة، لا زلت أحفظ أسماء المواقع باللغة العربية والكنعانية، وجدت حلاً بين جدلية العلاقة بين الثقافي والسياسي والجنسية والهوية، عندما تمتزج بلون الكوفية الفدائية
ودع وليد اصدقاءه الاسرى في رسالته الأخيرة قائلاً: سأبقى أحبكم، فالحب هو نصري الوحيد والمتواضع على سجاني، وصعد وليد الباص إلى رام الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *