اليوم تحل ذكرى الثالث عشر من نيسان تاريخ اندلاع الحرب الاهلية في لبنان قبل تسع واربعين عاماٍ. من المهم برأي قبل الدخول في موضوع الحرب الاهلية الحديث عن المقدمات التي اسست لهذه الحرب وطليعتها مسألة الكيان والنظام.
إن معاهدة سايكس بيكو مسؤولة عن تجزئة الامة إلى كيانات جغرافية، ولقد كان لبنان بفعل هذه المعاهدة أحد الكيانات الذي سمي وطناً فتم الانفصال كما في غيره من الكيانات بين مفهوم الامة ومفهوم الوطن فضاعت الهوية الحقيقية للشعب. فلبنان الكيان هو في الوقت نفسه لبنان الكيانات، لذلك كان سهلاً على الموأمرة تحقيق مأربها في لبنان، وذلك من خلال التلاعب على وتر الطائفية فأحدى اهداف الحرب كانت تدمير صيغة الحياة الواحدة بين اللبناييين فإسرائيل كدولة لا يمكن لها ان تبقى الا إذا عممت نموذجها، لذلك هي وضعت كل قوتها بدعم من الولايات المتحدة لانشاء دويلات طائفية في المنطقة المجاورة لها.
لقد حاول البعض منذعام 1943 صياغة واقع لبنان ومستقبله حول مفهومين متحركين هما الكيان والنظام، وذلك حسب اتجاه يدفع بالفئة المتسلطة لاخضاع النظام أو لتطويعه بشكل يخدم مصالحها هي بالذات. فيصبح هذا النظام تعبيراً متزايداً عن الجموح والاجحاف إلى درجة تصبح فيه الهوة بين المستغل والمُستغل انشقاقا لايلتحم، وهذه المسألة تعدت حدود النظام لتطال جوهر الكيان بحيث أصبح كل اهتزاز لمصالح المتحكمين هو اهتزاز للمشهد السياسي برمته مما أنتج وضعية اجتماعية تسير على رمال متحركة جعلت لبنان يعيش في اضطراب دائم.
وكان من نتيجة ذلك إن البعض أصبح يعتبر أن كل مناقشة للنظام هي مناقشة للكيان بغية ازالته، وفي ظل هذا المشهد برزت اصوات راحت تطرح الفيدرالية والكونفيدارلية اي بمعنى اخر التقسيم. وكلها مشاريع تطال بنية الكيان ونظامه السياسي، والتي هي ينية قابلة للنزاع.
لايختلف اثنان ان تاريخ لبنان السياسي منذ انشاء دولة لبنان الكبير حتى اليوم هو تاريخ تقسيم ونزاعات وتوزيع للحصص، بحيث باتت كل طائفة تشعر بأنها دولة بحد ذاتها لها مدراسها ومستشفياتها واعلامها ، وفي الحروب لها جيشها ايضاً، مما حال ويحول باستمرار دون امكانية انتقال الفرد من عضوية القبيلة والطائفة الى عضوية الدولة.حتى المؤسسات التي نشأت اجتماعية كانت او اقتصادية او سياسية او ثقافية فقد اقيمت على هذه القاعدة، وهي أمنت باستمرار للقوى المعادية سهولة فائقة في التلاعب بمصير اللبنانيين، وما الازمات المتتالية التي عرفها لبنان في القرنين الاخيرين ألا برهان على ذلك. اذ اتخذت من طابع التناقض الداخلي طابع التحارب الاهلي.
هذه الاسباب وغيرها شكلت مقدمات لاستغلال التناقضات الاجتماعية من قبل الاعداء فكانت غطاء له في التدخل واثارة العصبيات والنعرات الطائفية وتأليب اللبنانيين على بعضهم البعض. لقد شكلت هذه الوضعية خدمة كبرى للعدو الصهيوني جعلته يستغل الفرص ويعمل على تأجيج الصراع ليسرق الارض ويستغل خيراتها.
اتت الحرب في لبنان كتعبير واضح عن الايديولوجيا الصهيونية في سياق تنفيذ مخططاتها على ارضنا القومية، وذلك على مرحلتين. المرحلة الاولى كانت بواسطة ادوات له على الساحة اللبنانية وفي المرحلة الثانية يواسطة تدخله المباشر.
لايمكن الحديث عن الحرب اللبنانية دون الحديث عن الصلة العضوية بين الساحتين اللبنانية والفلسطينية. فالحرب التي دارت في لبنان كان أحد اهدافها تصفية القضية الفلسطينية. هذا المخطط الذي بدأ مع ارغام العدو الصهيوني المقاومة الفلسطينية عن الابتعاد عن الحدود الاردنية الفلسطينية عام 1970 بواسطة نظام الملك حسين. لتأتي بعد ذلك اتفاقية فصل “القوات” على الحدود المصرية الفلسطينية بعد حرب تشرين عام 1973، ومن ثم معاهدة “كامب ديفيد”، وصولاً إلى اتفاق السابع عشر من ايار، وفي كل ذلك تـاكيد على أن المعركة بالنسبة للعدو هي واحدة على ارضنا القومية، مما يفرض علينا ان تكون المواجهة واحدة موحدة.
لقد كان انطلاق الثورة الفلسطينية تعبير عن فشل الانظمة العربية في استرداد الحقوق القومية في فلسطين. خاصة أن هذه الانظمة كانت بمعظمها من صنيعة الاستعمار. ولما كان المشروع الصهيوني جزء لايتجزء من مشروع وعد بلفور فان موقع هذه الانظمة لم يكن بعيدا عن التواطئ ضد فلسطين وهذا الامر توضح جليا بعد توقيع السادات لاتفاق كامب ديفيد.
عام 1970 وتحت ضعوط اميركية اسرائيلية اقدم النظام الاردني على تنفيذ عملية اقتلاع دموية ضد بنية المقاومة الفلسطينية في الاردن كان الهدف منها ابعادها عن مراكز انطلاقها على الحدود الاردنية الفلسطنية لتنفيذ عمليات ضد العدو الصهيوني وعلى اثر هذه المجزرة انتقلت الثورة الفلسطينية بكوادرها وقيادتها الى لبنان واقامت قواعد عسكرية لها على الحدود اللبنانية الفلسطينية كانت مركز انطلاقها لتنفيذ عمليات في الداخل الفلسطيني،وايضاً كان للعمليات التي قامت بها الثورة الفلسطينية ضد المصالح الصهيونية في اوروبا تأثير كبير في الرأي العام الاوروبي لجهة تعاطفه مع القضية الفلسطنية.
امام هذا المشهد المتنامي راح العدو يرسم مخططاته لابعاد المقاومة الفلسطينية عن الحدود اللبنانية – الفلسطينية وعن دائرة الحضور في المحافل الدولية، ولم يجد في سبيل تحقيق غايته أفضل من جر المقاومة الفلسطينية إلى مستنقع النزاعات الداخلية اللبنانية مستفيدا من الانشطارات الاجتماعية والسياسية والطائفية داخل التركيبة اللبنانية، وهو تعاون في ذلك مع بعض ضباط المخابرات اللبنانية ومع فريق من اللبنانيين توهم واوهم مؤيديه ان العدو صديق وانه بالامكان اقامة دويلة في لبنان مشابهة لدولته لا بل تضاهيها في التقدم.
وامعانا في تنفيذ مخططه رفع الفريق الانعزالي شعار اقامة الدويلة المستقلة متسترا بالف ستار من مقولة المجتمع الامن الى مقولة الفيدارالية وغيرها من المقولات التي تضج بالعنصرية والتفوق الرخيص، ومضت هذه الشعارات إلى حيز التنفيذ بسرعة هائلة إلى ان دنت الساعة لينطفئ مصباح التحضر الموهوم والتفوق الطاعن في الاغتراب والتغريب.
لقد اتت سياسة تأليب اللبنانيين على الفلسطينيين التي مارسها الفريق الانعزالي من ضمن المخطط الذي يهدف إلى خلق اجواء مواتية تمهد للحرب الاهلية، والذي ترافق مع اجواء التعبئة العسكرية والنفسية والسياسية التي كان يقوم بها حزب الكتائب ضد الوجود الفلسطينني في لبنان، والتي كانت تركز على أن هناك مخططا فلسطينيا اسلاميا لقيام دولة فلسطينية في لبنان تكون بديلا عن فلسطين ، وأن نجاح هذه الخطة يستند الى تهجير المسيحيين من ارضهم،وفي ظل اجواء التعبئة هذه التحق عدد كبير من الشبان بمخيمات للتدريب العسكري التي اقامتها احزاب الكتائب والاحرار والتنظيم. كما راحت الاسلحة تتدفق على هذه الاحزاب من الخارج وبتسهيل من اجهزة المخابرات اللبنانية
لقد خاصت القوى الانعزالية الحرب بوصفها اداة للعدو وكنتيجة لارتباطها التاريخي به في المصلحة والوجود.وهي لم تكتف بتشكيل رأس حربة له بل عملت على اقامة شريط بشري وجغرافي في الداخل وعلى الحدود مع فلسطين المحتلة كان هدفه ان يمنع الحرب ضد هذا العدو.ولقد ظهر ذلك جليا في سلوك مليشيات الجبهة اللبنانية عبر البدء بعمليات الخطف والتهجير والقتل على الهوية الطائفية.مما اوصل المناطق التي كانت تخضع لسيطرتها الى وضعية الصفاء المذهبي، وذلك بغية خلق نموذج متناقض مع المناطق اللبنانية الاخرى يشكل منطلقا للتقسيم ويشبه الى حد كبير نموذج الكيان الصهيوني.
واليوم وبعد مايقارب الثلاثين عاما على انتهاء الحرب الاهلية: فان لبنان مازال يدور في فلك التجاذبات الاقليمية والدولية والتي تتشابك تشابكا معقداَ للغاية. فالولايات المتحدة واسرائيل تسعيان إلى عدم استعادة لبنان عافيته الكاملة. والصورة اليوم ترسو على واقغ متأزم في العلاقات اللبنانية – اللبنانية، وفي العلاقات بين بعض الاطراف اللبنانيين بسوريا، وفي تصاعد حدة الازمة الاقتصادية والتي تتحمل مسؤولياتها الفئة الحاكمة والتي انتقلت من وراء المتاريس الى وراء طاولة مجلس الوزراء. واخيرا وليس اخراً يبقى السؤال الكبير هل انتهت الحرب هل قضينا على بوادر انبعاثها من جديد. هل استطعنا تحويل الانتصار الوطني على اسرائيل الى مكاسب اجتماعية واقتصادية. هل استطعنا تحصين الوطن بنظام صالح يقوم على اساس الغاء الطائفية السياسية ونبذ الفساد واحترام القانون. وهل سنتتظر كثيرا بعد؟
كاتب وصحافي