ترافقت الحضارة السورية مع تحول الانسان في العصر الحجري الأخير في 8000 قبل الميلاد الى الزراعة وكان القمح البذرة الأولى التي هجنها الأنسان السوري وقام بزراعتها بعد أن كانت بذار برية ، وأطلق على تلك المرحلة الثورة الزراعية لما ترافق معها من اختراع المحراث والعجلة وبناء اقنية الري وحواصل التخزين والعمل على حساب فصول السنة الشمسية (التقويم الشمسي ) ، وانتقل بعد هذه الثورة الى الاستقرار وبناء التجمعات البشرية المتاخمة للسهول المزروعة والتي تحولت فيما بعد الى قرى ومدن مأهولة، وأصبح لهذه الحبات الذهبية رمزية مقدسة لما حملته من أمن غذائي وخاصة بعد صناعة الخبز ، واستقرار اقتصادي وعادات اجتماعية وطقوس دينية واساطير مرتبطة به
(اسطورة بعل وعشتار) وأعياد ( عيد البربارة ) وهو يصادف الرابع من كانون الأول وهو عيد يتم الاحتفال به تيمنا” بعطاء الأرض وزراعتها من جديد فتصنع به الحلوى المرتبطة بالقمح ( القمحية والهريسة والسليقة ) وتلقى الأهازيج ومنها ( بالبربارة رجع الحب ع كوارة ) كناية عن الانتهاء من زراعة القمح للموسم الجديد ، انها أعياد ارتبطت بالأرض وبالقمح ، فكانت حبة القمح السوري الذهبية بروحها الجامعة رمزا” من رموز الحضارة السورية فكريا” وثقافيا” وأدبيا “ودينيا” ، وتمددت زراعته من سهول فلسطين وهو المكان الأول المكتشف لزراعته في (حقبة الثقافة النطوفية) ليشمل كامل سوريا الطبيعية ، وليصبح فيما بعد مصدرا” غذائيا و “تجاريا” هاما” ، فتم تصديره الى جزر البحر السوري وبلاد الحثيين في الأناضول وصولا الى بلاد اليونان القديم وذلك عن طريق مدينة أوغاريت ، المدينة الرائدة في التجارة البحرية ، حيث اكتشفت العديد من المراسلات بين ملوك جزر البحر السوري وملوك اوغاريت وذلك لترتيب تخزين وشحن كميات القمح القادمة من مدن بلاد الرافدين والجزيرة السورية وحوران وسهول بلاد كنعان الى وجهتها النهائية لتلك الجزر والممالك القديمة ، وتروي الدراسات التاريخية أن الامبراطورية الرومانية كانت تتزود من سهول حوران الخصبة من القمح حيث تغطي استهلاك الدولة الرومانية واعتبرت (اهراءات روما) أي مستودعاتها الغذائية .
ويعتبر القمح السوري القاسي من أجود أنواع القمح عالميا والذي لا يقدّر بثمن، فهو لا يتأثر بالتأثيرات الجوية وتغير المناخ ويستطيع التعامل مع مختلف المناخات وجميع أنواع التربة ومستويات الجفاف والرطوبة.
فقد اكتشف العلماء أن البذور السورية هي الوحيدة التي لم تصبها الآفات والحشرات من بين آلاف الأنواع من النباتات التي دمّرتها الآفات خلال تجارب حصلت في حقول القمح بولاية كنساس الأمريكية، ويشير الخبراء الأمريكيون إلى أن ميزة البذور السورية هي قدرتها على التطور جينيا والحفاظ على خصائصها التي تمكّنها من مكافحة الآفات والحشرات مع تغير الطبيعة المناخية للأرض، فعندما نذكر القمح قديما وحديثا لابد من ذكر سوريا، فهي عبر التاريخ كانت تأكل وتطعم غيرها
وحديثًا، نجحت سوريا في أن تضع نفسها على خارطة الدول القليلة في العالم المكتفية ذاتيًا بالقمح.
فعلى مدار 40 عاما قبل الحرب، كانت سوريا الدولة الوحيدة المكتفية ذاتيا من القمح بالإضافة لذلك يوجد لديها فائض من القمح لتصديره، عدا عن ذلك فلديها أفضل البذور عالميا، ويقدر استلاك البلاد من القمح سنويا بحوالي 2.5 مليون طن.
ظلت البلاد حتى عام 2011 دولة مكتفية ذاتيا ومصدرة للقمح، وبلغت الأراضي المزروعة منه عام 2007 قرابة 1.7 مليون هكتار، بمعدّل إنتاجي يزيد عن 4.1 مليون طن.
وكانت سوريا تعتمد سياسة دعم مركّزة لمحصول القمح حيث حافظت منذ عام 1990 حتى عام 2011 على المساحة المزروعة بالقمح والتي بلغت نحو 1.7 مليون هكتار، وأبقت الإنتاج أعلى من الحاجة محتفظة بمخزون استراتيجي يكفي من عامين الى خمسة أعوام ، ومن مساحة القمح المزروعة تشكّل المساحة المروية 40%، والمساحة البعلية التي تعتمد على الأمطار 60%، والجدير بالذكر أن هذه النّسب تعطي مؤشرا لاتساع الرقعة المروية بعد أن كان السوريون يعتمدون في هذه الزراعة على مساحات محددة ، ولكن مع دخول الألفية الجديدة وتطوير الأدوات الزراعية ، بات المزارعون يعتمدون أكثر على الآلة في محاصيلهم ، ما وفّر الجهد المبذول وحسّن من الإنتاج وكميته .
بلغ متوسط إنتاج البلاد من القمح خلال فترة 1990-2011 نحو 4.1 مليون طن سنويا، وكان أعلى إنتاج عام 2006 بمقدار 4.9 مليون طن.
انتهجت الحكومة ساسة شراء كل محاصيل القمح من المزارعين، حيث كانت تشتري قبل عام 2011 ما كميته 2.5 مليون طن لتغطية الاستهلاك وتعزيز الاحتياطي، فيما يتمّ تصدير ما يقارب الـ 1.5 مليون طن إلى دول أخرى مثل مصر.
وعندما بدأت الحرب شهدت الأراضي تراجعًا في زراعته فمنذ العام 2011 وبسبب الحرب الشرسة التي تعرضت لها البلاد وسرقة المخزون الاستراتيجي من قبل تركيا وعملائها وحرق المحاصيل وتجفيف الأنهار (دجلة والفرات والخابور) وتلويث وتدمير الأراضي الخصبة، كانت نتائج ذلك هجرة آلاف الفلاحين من العديد من المناطق والأرياف والتي كانت تشكّل أراض هامة لزراعة القمح في منطقة الجزيرة السورية وحوران.
ومع بدء الحرب تدهور الانتاج بشكل كبير، اضطرت البلاد خلال عام 2012 إلى استيراد القمح لأول مرة ، وخرجت أكثر من 75% من المناطق المنتجة للقمح في شمال وشمال شرق وجنوب البلاد من الإنتاج ، كما تراجعت المساحة المزروعة بالقمح ، فكانت الأقل منذ خمسينيات القرن الماضي .
وقد أنتجت الأراضي الزراعية عام 2012 قرابة مليوني طن من القمح رغم تأثُّر مناطق الإنتاج الرئيسية بالحرب والأحوال الجوية السيئة وقطع الأنهار، لا سيما محافظتي حلب والحسكة وحوران ، وتراوحت نسبة التراجع ما بين 50% الى 75%.
أما عن موسم عام 2013 فكان الأسوأ منذ عقود ، وشهد طفرة باستيراد القمح إلى البلاد ، حيث زادت كمية القمح المستورد إلى 2.5 مليون طن ، وفي عام 2014 حصدت سوريا أسوأ محصول قمح حيث انخفض لأقل من مليون طن نتيجة الجفاف الشديد الذي شهدته المناطق الزراعية ، بالإضافة إلى ظروف الحرب ومحاولات المحتل الأمريكي والتركي وعملائهم بالمنطقة اتلاف الاراضي الزراعية وسرقة المحاصيل وقطع المياه وحرق الأراضي الزراعية وتدمير الطرق وابتزاز وتهجير المزارعين .
أمّا في عام 2015، فقد كانت حصيلة مشتريات الدولة من المزارعين قد بلغت 454 ألف طن بالمقارنة مع 523 ألف طن في العام 2014 . وفي عام 2016 اشترت الدولة 425 ألف طن من المزارعين ، والكميات الأكبر من الحبوب التي تم استلامها كانت من الحسكة ، في حين أن بقية المحافظات لعب عامل الجفاف دورا” سلبيّا” فيها بالإضافة لعمليات التدمير وحرق المساحات المزروعة .
وفي العام 2017 وصل الانتاج من القمح إلى مليون و850 ألف طن، ولم يتجاوز إنتاج القمح لعام 2018 المليون و200 ألف طن، بحسب منظمة (الفاو للأغذية).
كاد أن يكون عام 2019 عام خير على القمح السوري لو لم تأت الحرائق على 30% منه، حيث اشتعلت النيران في حقول القمح والشعير، وقد طالت الحرائق كافة محاصيل القمح في البلاد شمالا وجنوبا، وقدرت المساحات المحترقة بأكثر من 80 ألف دونم في عموم البلاد، ما يشكّل نسبة مرتفعة من كامل محصول القمح، والذي كان من المتوقع أن يتراوح الانتاج بين 2 الى 2.5 مليون طن، وهو الموسم الأضخم منذ أكثر من 8 سنوات.
وانخفض الانتاج في العام 2021 وذلك حسب منظمة الأغذية العالمية الى ما يقارب مليون طن فقط بكامل الأراضي المزروعة، وقد تراجعت جودة الانتاج أيضا وذلك لمحاولة المحتل الأمريكي وعملائه تأمين كميات من البذار تؤدي الى محاصيل سيئة وتؤدي أيضا الى تدمير خصوبة التربة وتلويثها ومنعها من الاستثمار لسنوات عديدة.
كانت لدى البلاد قبل الحرب القدرة على تصدير القمح للعديد من الدول، إلا أنها باتت اليوم بحاجة لاستيراد هذه السلعة بكميات مليونية، حيث نقلت وكالة (إنترفاكس) الروسية عن وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية قوله: إن البلاد حاليا بحاجة إلى استيراد أكثر من 1.5 مليون طن من القمح سنويا معظمها من روسيا.
وبالنتيجة : فإن العمل على انهاء زراعة القمح بكامل أراضي الأمة السورية , فما حصل بالشام حصل ذاته في العراق خلال فترة الحرب الأمريكية على العراق وما بعدها , من تدمير للأراضي الزراعية الخصبة وتلويثها وتجفيف لمصادر المياه وتمليح للتربة وحرق للمحاصيل في شمال وجنوب بلاد الرافدين بالإضافة لمناطق حوران والجزيرة السورية بالإضافة لعملية التهجير الممنهج للسكان ، انه فصل هام من فصول حرب الابادة التي تتعرض لها أمتنا والتي تتم بأيادي صهيونية يهودية ممنهجة لتهجير أبناء أمتنا وتدمير الموروث الحضاري السوري والرابط القوي بهذه الأرض المعطاءة حضارة” وأمنا” غذائيا” .