مقدمة:
أضحى الآشوريون في نهاية القرن العاشر ق.م القوة الرئيسية في منطقة الشرق القديم، وذلك انطلاقاً من عهد الملك القوي أدد نيراري الثاني (911-891 ق.م) الذي سيطر على كل منطقة الخابور مطلقاً على نفسه لقب “ملك جهات العالم الأربع”، ومفتتحاً عصراً آشورياً حديثاً بلغت فيه الدولة من القوة العسكرية مبلغاً عظيماً مكّن الآشوريين من السيطرة طيلة ثلاثة قرون كوّنوا خلالها أوسع امبراطورية في تاريخ الشرق القديم كله.
وقد وجّه أوائل ملوك العصر الآشوري الحديث اهتمامهم نحو الدويلات الآرامية في بلاد الشام، كما تصدى أولئك للأقوام الجبلية في جبال زاغروس..أما في الجنوب فقد دخلت منطقة بابل تحت السيطرة الآشورية بعد أن حل الضعف بها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الدولة الحثية التي زالت من الوجود في القرن الثاني عشر ق.م، والمملكة المصرية التي تراجعت قوتها قبل العصر الآشوري الحديث، الأمر الذي فسح المجال أمام الآشوريين لبسط السيطرة في سوريا، نظراً للامتداد الحضاري الطبيعي بين أقاليم سوريا القديمة.
النص الخاص بحملة الملك “آشور ناصر بال الثاني”(883-859 ق.م) إلى المتوسط:
يعتبر النص الخاص بحملة الملك “آشور ناصر بال الثاني”(883-859 ق.م) إلى المتوسط –والذي عُثر عليه في معبد أورتا بمدينة كلخو/نمرود، شرقي مدينة الموصل (1) من أهم النصوص الآشورية، لأنه النص الوحيد من الألف الأولى ق.م الذي يقدم معلومات نادرة عن طرق المواصلات التي كانت تربط مناطق آشور بالشام ولبنان وفلسطين (مدن الداخل الآرامية والساحل الكنعاني)، ويرسم بوضوح الطريق التجارية (الطبيعية) الرابطة بين آشور والمدن الكنعانية من جهة، وبين الممالك الآرامية -في منطقة ما بين النهرين وسوريا الشمالية والوسطى- والساحل الكنعاني من جهة أخرى… مما يشير إلى وحدتها الطبيعية، فبعد عبور حملة الملك آشور ناصر بال الثاني نهر دجلة انطلاقاً من “كلخو”(نمرود) تصل إلى مملكة “بيت بحياني” الآرامية (تل حلف) قرب رأس العين السورية على منابع الخابور –أحد روافد الفرات-، وبعد “بيت بحياني” تصل الحملة إلى مملكة “بيت عديني” الآرامية أيضاً (تل برسيب على الضفة اليسرى لنهر الفرات إلى الجنوب من مدينة جرابلس/كركميش) وتل برسيب كان عاصمة لمملكة بيت عديني الآرامية حسب نتائج الحفريات التي أجرتها بعثة فرنسية في التل عام 1929…(2)…وبعد بيت عديني تعبر الحملة الفرات وتتجه نحو مدينة جرابلس/كركميش ثم إلى مدينة “حزازي” (أعزاز) إلى الشمال الغربي من مدينة حلب، وقد جاء في النص الآشوري أن أعزاز/حزازي كانت تابعة لمملكة “حطينة” الآرامية حول حوض العاصي الأسفل (منطقة أنطاكية)… وتغادر الحملة الآشورية أعزاز غرباً باتجاه نهر “عفرين”، وتعبره باتجاه مدينة “كونولو” –مقر ملك حطينة- والتي يعتقد الباحثون أنها موقع “عين دارا” إلى الشمال الغربي من حلب (3).. وبعد عبور العاصي انطلاقاً من “كونولو” سلكت حملة الملك الآشوري الطريق الواقعة بين جبل “يراكي” وجبل “ياتوري”، أما جبل “يراكي” فهو حالياً جبل “باريشا” (4)، و”ياتوري” هو جبل بركات أو الشيخ بركات (5)…وبالاعتماد على دراسات جغرافية وطبوغرافية خاصة بسوريا قام بها كل من “جاك إده” و”جاك ويلرس” و”لويس دوبرتري” و”عبد الرحمن حميدة”(6) تمكنّا من تحديد موقعي الجبلين المذكورين، لا سيما وأنهما ضمن سلسلة من عدة جبال تحيط بمدينة حلب مثل جبل سمعان وعفرين والعلا وعلايا وحارم وريحا وزين العابدين والأربعين، بالإضافة إلى جبليْ باريشا والشيخ بركات اللذين لا يُذكران في الخرائط.
يقع جبل “باريشا” (يراكي) إلى الغرب من مدينة حلب وإلى الجنوب من مدينة عفرين، ويبعد عن حلب مسافة تقدر بخمسين كيلو متراً (7)، أما جبل الشيخ بركات (ياتوري) فيطل على بلدة “ديرة عزة” الواقعة إلى الشمال الغربي من مدينة حلب وإلى الجنوب الشرقي من مجرى نهر عفرين، وتبعد عن حلب مسافة ثلاثين كيلو متراً تقريباً. (8)
وبعد سلوك الحملة لهذه الطريق بين الجبلين المذكورين –والتي تمر ببلدة “سرمدا” الحالية حسب “دوسو” (9)- تصل إلى نهر “سنجوره” الذي يرى “دوسو” أنه نهر “ساروت” الحالي الذي يصب في العاصي بالقرب من بلدة “شيزر” الواقعة إلى الشمال الغربي من مدينة حماة والقريبة منها(10)، ثم تمر الحملة الآشورية بين جبليْ “سراتيني” و”دوباني”، وهما جبلان صغيران يقعان على جانبيْ الطريق الواصلة بين “شيزر” في الشمال الغربي من حماة و”رابو” في الجنوب الغربي من حماة أيضاً وإلى الشرق من مصياف (11)…وبعد ذلك تدخل الحملة مدينة ملكية (حصناً) لـ “لوبارنا” ملك حطينة، وتلك المدينة الحصن هي “رابو”… وقد كانت مدن “لوحوتي” آخر محطات الملك الآشوري قبل التوجه إلى لبنان، وهي مدن تقع إلى الجنوب الغربي من حماة حسب الباحث “دوسو”. (12) …وتصل الحملة أخيراً إلى البحر المتوسط.
ويعدد النص المدن الكنعانية التي وصلت إليها الحملة ومنها “صور” و”صيدا” و”جبيل” و”أرواد” و”أمورو/سيميرا” و”محلاتة” و”ميزا” و”قيزا”، وهذه المدن الثلاث الأخيرة ربما تكون أسماء لأحياء تكونت منها مدينة “طرابلس” القديمة، وربما تكون “ميزا” هي “إيميز” (حمص) وسط سوريا. (13)
ثم يغادر الملك الآشوري الساحل الكنعاني متجهاً نحو جبل أمانوس، ولا بد أن طريق العودة الذي سلكته الحملة الآشورية من الساحل الكنعاني إلى آشور قد مر بمحاذاة المتوسط، ثم من مدينة أنطاكية على العاصي، تلك المدينة التي تمتد إليها طرقٌ تعبر جبل أمانوس الذي قصدته الحملة الآشورية.
خاتمة:
إن المنطقة من شواطئ بحر قزوين إلى شواطئ المتوسط، مروراً ببحيرة فان وآشور وبابل وسوريا كلها، كانت منطقة حضارية واحدة، قامت دولة آشور فيها بدور الحارس القوي في الألف الأول ق.م، وإذا بحثنا عن الدور الفعال الحقيقي للآشوريين في سوريا القديمة فهو الحفاظ على وحدتها الحضارية.
الهوامش
1- كلخو/نمرود عاصمة الإمبراطورية الآشورية الحديثة…تقع على بعد 40كم جنوب شرق الموصل وعلى الضفة الشرقية لنهر دجلة، أسسها الملك شلمنصّر الأول عام1270ق.م، وجدّدها الملك آشور ناصر بال الثاني حوالي عام 883ق.م…قدّم موقع نمرود المكتشف سنة 1846م مجموعة هائلة من المنحوتات والمسلات والأنصاب والعاجيات والمجوهرات والرُّقُم المسمارية التي تحمل معطيات لا مثيل لها، اكتُشفت ضمن قصور المدينة ومعابدها، وأهمها النص المسماري المكتشف في معبد “أورتا”…غيّبت الأحداث مدينة نمرود عام 612 ق.م، وفي مطلع عام 2015م تعرّضت آثارها وأوابدها –كالعديد من المواقع الأثرية العراقية والسورية-لهجوم همجيّ على يد العصابات الصهيونية/داعش في إطار الحرب غير المسبوقة على مكونات الهوية التاريخية في المنطقة.
2- أنظر طوير قاسم: “الصورة التاريخية والحضارية للقطر العربي السوري في العصور الشرقية القديمة”، مجلة دراسات تاريخية العدد6 1981، جامعة دمشق ص127
3- Strommenger.Eva: Assyrian Domination, Aramaean Persistence”, in: (Ebla to Damascus). Ed: Harvey Weiss, Washington 1985 p.323
4- DUSSAUD Rene: Topographie Historique de la Syrie antiqe et medieval,paris,1927,pp.237-238-241
5- ibid.p.241
6EDDE.Jacques: Geographie de la Syrie et de Liban, Beyroth 1937-1938,DUBERTRET.L.WEULERSSE.J: Manuel de Geographie: Syrie, Liban et Proche Orient, Beyrouth,1940,HAMIDE.Abdul-Rahman: La Region d Alep, etude de geographie rural. Paris 1959
أنظر أيضاً: حميدة عبد الرحمن: “محافظة حلب” دمشق 1992
7- EDDE:op.cit.p.51, HAMIDE.op.cit.pp32-37
8- Ibid وأيضاً حميدة: المرجع السابق، ص78
9- DUSSAUD.op.cit.p.241
10- أنظر سعادة جبرائيل: أبحاث تاريخية وأثرية، ترجمه عن الفرنسية سلمان حرفوش، دمشق 1987 ص153-178، الهامش رقم 16
11- DUSSAUD.op.cit.p.241
12- DUSSAUD.op.cit.p.241
13- Ibid,p.113