“تاج” والنقلة النوعية في الدراما السورية

لا يوجد شك أن مسلسل “تاج” هو عمل تمثيلي فني ضخم يشكل نقلة نوعية في الدراما السورية، لا بل سينعكس تأثيره التقني والمهني على إنتاج المسلسلات الفنية على دول الشرق الأوسط والأدنى قاطبة.
تم تصويره في سورية وبلغت تكلفة إنتاجه ثمانية ملايين وخمسمائة ألف دولار. هذا الرقم هو الأعلى في تاريخ إنتاج المسلسلات السورية.
وكشف منتج العمل صادق الصباح العديد من التفاصيل، لا سيما المتعلقة ببناء أحياء ومدن كاملة خاصة بمسلسل “تاج” لكي تناسب الفترة الزمنية التي يحاكيها المسلسل.
هذا العمل الفني من بطولة بسام كوسا وتيم حسن وكوكبة من الممثلين النجوم من سورية ولبنان تشكل أحداثه ملحمة من الصعب تكرارها، ويحاكي قصة حب واستقلال وحرية.
ما دفعني للكتابة هو التوجه العام والأهداف المرجوة من هذا العمل الفني. وما أريد أن أركز وأسلط الضوء عليه هو مقاربة مع مسلسل “باب الحارة” الذي عالج أحداث نفس الحقبة، ذلك الباب الذي أدخلنا بنفق الانغماس الأسوَد ومتاهة أوصلتنا لحارة الضبع وحارة أبو النار الافتراضيتين بحسب شهادة مؤلفه. وأصبح متابعيه سجناء خلف أسوار هذا الباب الذي سبب ببناء ذهنية لبيئة معينة لدى شرائح من المجتمع السوري، كان لها تأثيرها المحرّض لخروج قوى إرهابية ساهمت بتدمير سورية.
عند دخول الجيش الفرنسي مدينة دمشق محتلاً عام 1920 قام بإحصاء السكان والمهن والأماكن العامة، معتبراً أن هذه الأماكن هي مقر لتجمع الناس، يجب أن تراقب بشدة، وفيها مؤشر على مدى تطور الحياة المدنية والاجتماعية.
طبعاُ قام الفرنسيون بمقارنتها ببلاد أخرى كانوا قد حكموها من قبل، مثل: مالي، والمغرب، وتشاد، والنيجر، والجزائر، ووجدوا فرقاً شاسعاً بينها وبين دمشق.

مسلسل “تاج” من تأليف عمر أبو سعدة، وإخراج سامر البرقاوي، وإنتاج شركة الصباح للإنتاج الفني، يتم عرضه خلال هذا الشهر ويوثق المسلسل لمرحلة الأحداث التي حصلت في دمشق في حقبة أربعينيات القرن الماضي، قبل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي بسنوات قليلة.
القائمة تؤكد أن دمشق الحقيقية لم تظهر قط على شاشات التلفزيون وفي الأعمال الدرامية الكاذبة ك “باب الحارة” وما شابهها.
مسلسل “تاج” الذي حررنا من هذا السجن وأخذنا إلى شوارع دمشق الحقيقية بالصالحية والحلبوني والشهبندر وأحياء القيمرية وباب توما وباب شرقي والزبلطاني والمزة وساحة المرجة وساحة الحجاز وأظهر الوجه الحضاري المتمدن للشام المتمثل بجامعاتها ومعاهدها ومدارسها التربوية ومستشفياتها ومبانيها الجميلة ودور السينما والمسرح والمقاهي والمطاعم والنوادي الرياضية ومراكز البريد والهاتف ومعارض السيارات والترامواي ومحطة القطار والذي أظهر النسيج المتنوع للشعب الممتد من ساحل الوطن السوري حتى الداخل مروراً بسهوله وجباله وأوديته متجسدة بوحدة قومية همها الأول تحرير أرضه من الاحتلال الفرنسي.
يكفينا رقي ووطنية في هذا العمل ما كتب على اليافطات التي رفعت أثناء التظاهرات ضد الاحتلال “سورية للسوريين” و “نموت ليحي الوطن” بدلاً من شعار “التار ولا العار” في ذلك المسلسل البائد .
أكتب اليوم عن هذا العمل وما زالت تعرض حلقاته ولا يهمني ما ستنتهي إليه هذه الأحداث بقدر ما يهمني النمطية والبصمة الحضارية التي سيرسخها هذا المسلسل في خلفية اللاشعور بأذهان مشاهديه ليجسد الصورة الحضارية الحقيقية لتلك الحقبة التاريخية.
نأمل من القيمين على المدن والأستوديوهات التي أنشئت لأجل تمثيل مشاهد مسلسل “تاج” أن تبقي أبوابها مفتوحة لتصوير مسلسلات هادفة مشابهة، وقفل باب تلك الحارة الهمجية التجهيلية إلى الأبد.
من المؤكد بعد هذا النجاح والإقبال لحضور مسلسل “تاج” أنه سيخطفنا للخلف إلى 29 سنة مضت ليذكرنا بحالة منع التجول الذي فرضها وقتها مسلسل “الجوارح” على الشارع السوري وتسمّر الناس أمام شاشات التلفزة ليتابعوا بكل شوق ولهفة مجريات الحلقات الأخيرة منه.
وأيضاً هناك مشهد تفجير الباص المميز الذي استوقفني في الحلقة ال 24 لأهميته ولتغييره مجرى الأحداث وقلب موازين القوى لصالح الثوار الوطنيين وعلى أغلب الظن هو مقتبس من عملية مشابهة نفذت في حيفا. بعد أن اشتد القصف من سلاح المدفعية الميدانية وسلاح الطيران الحربي على شوارع وأحياء دمشق المأهولة بالسكان المدنيين والملاحقات والمداهمات العشوائية التي كان ينفذها الجيش الفرنسي بحق أبناء دمشق الثائرة.
حصل مشهد حواري بين تاج الدين الحمال ومجموعة من المناضلين بعد وصول أنباء عن استسلام بعض أحياء دمشق.
عندما قال: “لازم نعمل ضربة كبيرة مشان نرفع معنويات الناس وإذا لم نعمل هالشي، هالبلد سوف تستسلم خلال ساعة”.
يقترح عليهم محمد الصابوني قائلاً: “في عملية عملناها وقت كنت بفلسطين ممكن نعمل شي بيشبها”، هذه العملية تقضي تلغيم عربة الترامواي بالمتفجرات الموصولة بجهاز ساعة مؤقتة للتفجير وارسالها إلى مكان تجمع جنود الاحتلال بساحة المرجة.
وبالفعل نفذت الخطة ونجحت العملية وحصدت عددا كبيرا بين قتيل وجريح من مرتزقة جنود الجيش الفرنسي.
هذه الحادثة تذكرني بواحدة من الأعمال البطولية التي خاضها الحزب القومي الإجتماعي في فلسطين في حقبة الأربعينات من القرن الماضي، حيث أن منفذ عام حيفا الرفيق كميل جدع ناقش جواب وتوجيهات حضرة الزعيم التي نقلت شفهياً مع ناظر التدريب الرفيق محمد شلبي، الذي كان آنذاك يشغل وظيفة رئيسية في سكك حديد فلسطين، وتم رسم خطة لتدمير مبنى المطاحن الكبرى، الذي يقع في قلب المنطقة العربية من مدينة حيفا ويتمركز فيه عدد كبير من القناصة اليهود، يراقبون منه تحركات السكان لمسافات بعيدة، لأن المبنى يطّل على عدد من أحياء المدينة.
حاول المناضلون مهاجمة مبنى المطاحن الكبرى أكثر من مرة دون جدوى، فالقناصة اليهود يراقبون كل تحرك في كل الشوارع والطرقات المؤدية إليه، من شارع الناصرة إلى وادي الصليب، ومن شارع الملوك إلى طريق شركة “شل” في الشمال. سقط عشرات الشهداء الأبرياء ضحية تنقلاتهم في الشوارع والطرقات وفي أزقة مكشوفة لقنّاصة ذلك المبنى، بالإضافة إلى قناصة “المنجرة” اليهودية وسط شارع الناصرة، وكانت الخطة تقضي بنسفه بأكمله.
كان هناك خط فرعي لسكة الحديد يصل إلى داخل مبنى المطاحن الكبرى، يستخدم لإدخال عربات القطار المحملة بالقمح إلى رصيف عند حافة المستودعات. وكانت الخطة تقضي بإدخال عربة قطار – لشحن أو لنقل الوقود – بعد تلغميها بالمتفجرات وإيصالها إلى رصيف المبنى. وبعد عدد من المناورات أجرتها القاطرة التي تقرر أن يقودها الموظف في سكة الحديد، كسائق قاطرة، القومي الإجتماعي “أحمد” المعروف تحبباً باسم “حمدوش”، تم تنفيذ الخطة حرفياً وبأعلى قدر من الدقة والنجاح، ونُسِفَ المبنى الذي كان يعيق حركة السكان، والفضل في نجاح العملية من الناحية التنفيذية يعود إلى القوميين الاجتماعيين: محمد شلبي، جميل عطية، عثمان دكناش وعدد من المواطنين غير الأعضاء في الحزب.
هذا هو دورنا من ذلك الوقت وحتى الآن، مسار بطولي نهضوي متلازم لا انهزم فيه، يتوحد فيه المسلك النضالي مع الفكر المقاوم لتحرير كامل تراب فلسطين وسائر أراضي أمتنا السورية السليبة.
وأخيراً سؤال يطرح نفسه على من شاهد وتابع هذا المسلسل وهو كم من خياط تقارير وعميل أمثال “رياض بك الجوهر” /الخياط وامثاله، الذي زرعته سلطات الاحتلال منذ خروجها من بلادنا وحتى الآن.