قيامة الدراما السورية وضرورتها

قيامة الدراما السورية وضرورتها

“اي مسلسل تتابع ؟” لعله السؤال الشائع في هذا الموسم الرمضاني المميز. ويكثر الجدل وتتوالى الانتقادات والتعليقات والاعجاب ببعض الاعمال والابطال والتبرم من بعضهم الاخر. لقد اضيف المسلسل الى حوائج هذا الشهر الذي يحفل بالصلاة والتقرب من الله وممارسة الشعائر الدينية. كما تتأجج في شهر الصيام هذا مشاعر الرحمة والرأفة وما يرافقها من اقتراب المواطن من اخيه المواطن ومن العائلة والجار والزميل والقريب.
والتنافس بين المسلسلات حالة طبيعية. كما الحماس عند المشاهدين كلٌ الى الموضوع الذي جذبه واسره بقصته وابطاله وحبكته. حتى ان المراهقين صغار السن وبعض الكبار ايضاً يتبارون في ترداد بعض كلمات وعبارات ابطال هذه الاعمال، وتقليدهم في تسريحات شعرهم، ولباسهم، وحركاتهم، وانتحال اسمائهم. وأيضا في إطلاق اسماء الأبطال الممثلين على مواليدهم الجدد. دون ان ننسى ما تقوم به شركات الانتاج من احصاء واستطلاع بقصد قياس المشاهدات التي ينالها اي من المسلسلات، وتقدر على اساسها شعبية الابطال الممثلين واجورهم وانتشارهم. ولعل في هذه الاحصاءات ما يشير الى المزاج العام في قبول او رفض بعض الاعمال وبعض الافكار. وفي عملية صناعة البطل وتحكم الشركات المنتجة بمزاج المشاهد يصار الى خلق شخصيات بعضها ايجابية بالمطلق وهذا من مألوف الدراما العربية. وبعضها سلبي بالأساس، لكن تضفي عليه سلبية بالأساس صفات ايجابية ومحببة كالشجاعة والرأفة والانتصار للضعيف ومواجهة التكبر والعجرفة مما يؤدي الى قبولها وتقليدها. ضمن لعبة من الترقب والتشويق تمتد على حلقات وايام واجزاء ايضاً طيلة شهر رمضان بشكل خاص. وعلى امتداد ايام السنة بشكل عام.
هذا وتبدي وسائل الاعلام من صحف ومجلات ومواقع الاهتمام بالبرامج والمسلسلات المعروضة ومناقشتها بشكل عام والتركيز على قصصها وواقعيتها وأثرها الاجتماعي والوطني والثقافي والسياسي.
وفي نظرة سريعة لهذا الموسم نلاحظ الحضور القوي للمسلسل السوري وتوزعه على معظم المحطات والمنصات العربية من الماء الى الماء. مع عدم التقليل من الانتاجات العربية الاخرى، وتسجيل غياب شبه تام للمسلسلات غير العربية التي استعانت بها بعض المحطات ومن ورائها، منذ بداية الازمة السورية، كمحاولة لإعاقة التواصل السوري والعربي وممارسة نوع من الحصار الاقتصادي على هذا القطاع المنتج والهام. الذي نما بشكل مذهل وشكل لسنين خلت قبيل الازمة الدموية التي عصفت بسوريا في العام 2011 قطاعاً حيوياً ناشطاً استوعب عدد لا بأس به من الفنانين والمهنيين و العمال و الاجراء .و شكل جاذباً للطلاب للدخول الى المعهد العالي للفنون المسرحية ،هذا الصرح الذي كان له تأثير اساسي على رفد الامكانيات و المواهب الشابة بقدرات اكاديمية عملت على تحصين و تمتين هذا القطاع و مكنه من اخذ مكان مرموق على ساحة القطاعات المنتجة و التي تؤمن فرصاً اعمل عدد لا بأس به من القوى العاملة خاصة الشابة و المتخصصة في هذه المهنة و المهن المتعلقة بها بشكل مباشر من تمثيل و كتابة و سيناريو واخراج و اضاءة و ديكور و ماكياج ومونتاج و غير ذلك .كما و ان رواج و انتشار الانتاج الدرامي السوري اظهر قدرة الكاتب و المخرج و الممثل على ابتداع اساليب تجيد لعبة العرض و الطلب لجهة طرح مواضيع مرغوبة من شرائح اجتماعية كبيرة في سوريا و لبنان و المشرق بشكل عام . وكذلك من لفت نظر المهتمين العرب لشراء وعرض هذه الاعمال على شاشاتهم بعد ان فرضت نفسها بقوة. وربما تميزت وتفردت بلمحات انسانية ورومانسية ووطنية واجتماعية جذبت المهتمين والمشاهدين. ليصار الى ضرورة وجود العمل والممثل والمخرج السوري نظراً لجودة المادة الدرامية التي يستطيع تقديمها. ولعل الوهن الذي اصاب قطاع الدراما في سوريا نتيجة الحرب قد أنهكه لكن لم يتمكن من القضاء عليه. يعود ذلك الى تماسك هذا القطاع وعراقته والمكانة المميزة التي حققها خلال السنوات التي سبقت الحرب على سوريا جراء الاهتمام الرسمي والخاص بهذا القطاع الذي كان يعول عليه الجميع. ومن عوامل صمود هذا القطاع وتمكنه من تجاوز المحنة التي حلت به، نتيجة تأثره بالوضع العام، هو اصرار عدد كبير واسماء لامعة من الممثلين على مواصلة العمل داخل القطر رغم الصعوبات التي اوجدتها الحرب، معتمدين بالأساس على قدرات ذاتية ومهنية وتخصصية، وما تشكله هذه الخصائص من ادوات تبقي الحياة في هذا القطاع ولو بحدها الادنى ريثما تمر العاصفة وتنجلي الغيوم. و كما تحسب للممثل و الكاتب و المخرج الذي صمد داخل البلد رغم الظروف القاسية ، تحسب لزميله الذي صارع البطالة و حمل خبرته و موهبته و ثقته بما يمتلك من علم و تجربة و اختصاص وذهب يبحث عن ميادين تحتاج الى طاقاته و قدرته على الابداع و الخلق بطريقة تشكل اضافة لاي عمل يشارك فيه .و لقد اثبتت الايام ان هؤلاء كانوا جديرين بالفرص التي اتيحت لهم .ليأتي هذا العام و قد نفضت الدراما السورية غبار الضعف و الوهن الذي اصابها وقدمت ما يبدو حتى الان اعمالاً يجمع الناقد و المشاهد و المستثمر على الاشادة بها .و تمكنت مسلسلات تعرض حالياً اولاد بديعة و العربجي و تاج و مال القبان ..وغيرها العديد من اكتساح الشاشات و المنصات العربية بشكل لافت يبشر بقيامة هذا القطاع من الكبوة التي المت به . ولعل اليقظة التي عادت للتدفق من جديد في عروق الدراما السورية لا تشكل اي انتقاص لمثيلتها اللبنانية والعربية بشكل عام بل تشكل حافزاً لنشاط مشابه وللاشتراك بأعمال تجمع قدرات نوعية مما يغني هذا القطاع أكثر وأكثر. والملفت للنظر انه هناك ممثلون ومنتجون ومخرجون وكتاب سيناريو ومهنيون في القطاعات المتداخلة مع هذا القطاع تمكنوا من اثبات حضورهم وتفوقهم، كما وساهمت هذه المنافسة في نمو وتجديد وتفعيل لهذا القطاع بما يعود بشكل ايجابي على العاملين به وعلى المشاهدين ايضاً. وعاد يثبت حضوره في عالم التنافس المثير بين التلفزيونات والمنصات في هذا العالم.
ان اليقظة الدرامية السورية هذا العام تشير الى ان اي قطاع يرتكز على اعمدة ثابتة من الاختصاص والجدية ومواصلة عمليات التجدد والملاءمة لا بد ان يتأثر في حالات تعرض الوطن الى محنة كبرى. ولكنه حتماً سيعود لأنه يحمل في بنيته جذوة النهوض من جديد ولعل التاريخ حافل بالدول التي اصيبت بنكبات وحروب هزت الاسس التي كانت تقوم عليها. لكنها نهضت، وازالت عنها الغبار وعادت لتمارس دورها وفعلها الذي تأخر لكنه لم يندثر.
ان حالة النهوض والحضور الذي شكلته الدراما السورية هذا الموسم يشكل حافزاً لقطاعات أخرى كي ;تقوم بدورها على قواعد ثابتة من الخبرة والتجربة والاختصاص. وهذا ما ننتظره في السنوات القادمة وعلى مستوى الكيانات السورية بشكل عام. وعلى الدول المستضعفة والمعرضة للانتهاكات في كيف تواجه الاعتداء بالتركيز على القطاعات الشابة المتخصصة والجادة التي اعدت وصقلت خلال فترات الازدهار والرخاء لتكون الاسس المتينة والعميقة التي يقوم عليها البناء القادر على حماية نفسه ومواجهة تقلبات الهزات الطبيعية والسياسية وجموح القوى التي تريد تشكيل عالم على مزاجها، لا احترام فيه للتاريخ والحضارة والمزاج الوطني الخاص لكل وطن على هذا الكوكب القلق.