نقد آخر لهنري حاماتي، قضية الانتماء والحرية

نقد آخر لهنري حاماتي، قضية الانتماء والحرية

عندما كتبت “نقد هنري حاماتي في رسائله” عاب عليَّ بعض الرفقاء نقدي له بعد غيابه وقالوا:
كيف تستغيب الرجل في وقت أنت “تعترف” أنك مدين له في تسديد وتصويب بعض الأفكار والمفاهيم القومية الاجتماعية التي كنت تسيء فهمها سابقاً!!

يبدو أنه لا زال يوجد من يساوي بين النقد والانتقاد، ويعتبر أن نقدي لهنري هو جحود وقلة وفاء!
نعم أنا أقِرّ بأني مدين للرجل وأني تعلمت منه، ولا أعترف، إني لم أنكر يوماً كي أعترف الآن!
لكن يوجد من لم يتعلّم من هنري شيئاً، خاصةً فضيلة الصراحة والصدق في القول والكتابة والموقف.
هنري كان يستطيب أن تخالفه وتعارضه، فذلك يعطيه فرصة للنقاش، وكان يكره المديح والمجاملة والمسايرة ويزدري المدّاحين والمسايرين.

أنا وجهت لهنري نقداً في فكرة واحدة معينة محددة كنت ولا زلت أخالفه فيها، وهذه الفكرة هي محصورة في مسألة مصدر السلطة في الحزب. أمّا أن يفهم البعض من كل ذلك أنني أخالف وأنتقد هنري حاماتي، هكذا وبشكل مطلق، فهذه ليست مشكلتي بل هي مشكلة البعض الذين لا يفهمون ما يقرأون والذين يزدردون الكلمات دون عقلها وإدراك معناها، كمن يزدرد طعامه ويلتهمه قبل علكه وقبل مضغه فيصاب بعسر الهضم.

هذه المقالة الآن هي أيضاً لنقد هنري حاماتي، لكن للإضاءة على ما نحب فيه وليس على ما نخالفه عليه، فالنقد يحتمل التأييد أيضاً وليس كله مخالفة.
قال لي هنري مرّة: إذا قرأت نفس الرسالة أو المقالة أو الكتاب مرتين أو أكثر، أعجبك المضمون أو لم يعجبك، يعني ذلك أنك “مخلص” في قراءتك وأنك بذلك تجازي الكاتب على كدّه الذهني وتعطيه قليلاً من حقه عليك.
إن هنري هو من القلائل الذين يكتبون لنا ونحن نقرأ لهم مرّة ومرّتين وأكثر.
هذا الرجل هو ذكي جداً ومؤمن بسعادة تماماً وهو مملوك كلياً للقضية السورية القومية الاجتماعية وقد عمل لها ولنصرتها وصرف في هذا السبيل كل وقته وعمره وحياته، وقد برهن للجميع أنه صاحب “إدراك عالي للعقيدة” وقد ترك وراءه مجموعة كبيرة من الكتب والدراسات والمؤلفات حتى أصبح مرجعاً رئيساً من مراجع أعمال الحركة السورية القومية الاجتماعية.
في مكتبتي جميع أعمال هنري الكتابية، بعضها قرأته من زمان قبل أن شغَلَت بالي فكرة معينة أردت فهمها ودراستها، مما دفعني، منذ سنوات، لإعادة قراءة هنري مجدداً بحثاً عنها. وفي قراءتي المتجددة تعرّفت على ميزة بارزة خاصّة بهنري حاماتي، وهذه الميزة موجودة في كل عنوان وكل مقالة وكل بحث له إطلاقاً. وأستطيع أن أقول إن هذه الميزة تشكّل قضية كبرى من قضايا الفكر القومي الاجتماعي ونظرته الجديدة الى الحياة والإنسان والقيم الإنسانية، أعني قضية الانتماء والحرية.
الإنماء والحرية هما خاصتان إنتان لا تستطيع إلاّ أن تلاحظهما بقوة كلما قرأت لهنري حاماتي، أكان في المقالة السياسية أو الفكرية العقائدية أو الحوارية أو في أي موضوع كان.
كلنا يعرف أن هنري حاماتي هو منتمي إلى عقيدة ونظرةٍ إلى الحياة تحملها الحركة السورية القومية الاجتماعية، وهذا الانتماء يظهر واضحاً جلياً في كل إنتاجه، حتى في رسالته الشخصية الى ابنه غيث.  فهل يمكننا إزاء هذا الانتماء الواضح والثابت والعميق أن نخرج إنتاجَه وأدبه من دائرة الأدب الحر؟
هل من تناقض بين الانتماء والحرية كما يظن الكثيرون؟ هل صحيح أن الحرية لا تتفق مع الانتماء؟ ما الحرية وما الانتماء؟
هذه الكلمة كانت لتجيب على هذه الأسئلة وتقول لا، ولتجزم أن أدب هنري حاماتي هو أدب منتمي بإمتياز وحر بإمتياز بنفس الوقت. وأكثر من ذلك، أن أدبه يستمد حريته أو خاصّة الحرية فيه من التزامه وانتمائه، وإن انتماءه يعطي حريته معناها الرائع: الحرية صراع!
هذه القضية الجديدة، قضية الانتماء مع الحرية كمسألتين متفاعلتين متكاملتين، يثيرها إنتاج هنري حاماتي بقوة لأنه يعطيك نموذجاً عن شيء جديد لم يعهده أبناء الحياة القديمة الذين يتحدثون عن تناقض وهمي غير موجود في الحقيقة بين الانتماء والحرية، والذين لا يفهمون من الانتماء إلاّ انه قيدٌ ولا من الحرية إلاّ أنها انفلات.
إنه يفهم الانتماء والحرية على غير ما يظنها هؤلاء.  عنده الانتماء هو انحياز لما يفعله ويراه حقاً وخيراً وجمالاً وعدلاً، وهو التزام بالحقيقة حيث رآها وهو انتصار لها.
“الحقيقة هي أن ننصرها” يقول حاماتي، أي أن نصارع لنصرتها، لا أن نكتفي بمعرفتها ونعتدّ بهذه المعرفة وكفى الله المؤمنين شرّ القتال. أما الحرية فهي حرية الصراع لنصرة الحق والخير والجمال والحقيقة، وليست حرية الانفلات والتملّص والهروب والتحلل من مسؤولية وواجب الصراع لنصرة الحق والخير والجمال إذ رأيناه.
إن أدب هنري حاماتي هو أدب حرٌ ومنتمي معاً ليس لأنه توفيقيٌ أو ازدواجي أو مترددٌ أو حائرٌ لا يستطيع أن ينحاز، ساعةً ترى له هوية ولون وقضية، وساعةً أخرى، تراه طليقاً من أية قضيةٍ أو هويةٍ معينة.  لا، إنه ليس شيئاً من ذلك، إنه لا يفهم الانتماء والحرية على هذا النحو.
إنه أدب منتمي وحرٌ معاً لأنه يفهم الانتماء والحرية فهماً جديداً لم يكن مألوفاً قبل نشؤ المدرسة الفكرية الفلسفية القومية الاجتماعية التي ينتمي إليها هنري، ولن يصبح مألوفاً قبل أن يأخذ الصراع الفكري مداه الكامل وقبل أن تحل معضلة الحرية بالحرية في مفهومها الجديد – الحرية صراع.
ليست الحرية صراعاً سلبياً ينتج عنه تخريب كما يفهم الأموات الصراع.  إنه صراع الأفكار والعقائد والمفاهيم لينهزم البالي منها وينتصر الجيد والصالح لبناء مجتمع أفضل وحياة أجمل.
“إن حق الحرية هو حق الصراع، وحق الصراع هو حق التقدم وحق التقدم هو حق الحياة” (سعاده)
وفي هذا الصراع الإيجابي البنائي المقدّس يجب أن تسقط عقائد ومفاهيم وتنتصر عقائد ومفاهيم.  يجب أن يكون هناك غالب ومغلوب.  وفي تاريخ الصراع في العالم كان هناك دائماً غالب ومغلوب.  الفاسد سيُغلب ويسقط حتماً، والصالح والقوي والجميل سينتصر ويبقى وتجود به الحياة.
هكذا تكون الحرية صراع وضمن هذا المعنى من لم يكن له عقيدة ونظرة إلى الحياة، ماذا يكون دوره في الصراع؟ بماذا يصارع؟  من أجل ماذا يصارع؟
إن من لا هوية فكرية له ولا قضية اجتماعية اقتصادية سياسية ينتمي إليها ويصارع بها ولها، لا نصيب له من الحرية بمعناها الجديد!
هكذا نفهم ونعرف أن الالتزام والانتماء في الفكر وفي الأدب لا يعني أبداً أن تكون مقيداً ومحصوراً ضمن أفكار غير مسموح لك أن تخرج عنها. لا، إن ذلك ليس معناه التزام أو انتماء، إن ذلك معناه عبودية وفقدان شخصية، معناه وظيفة كاتب مأجور عند السلطان.
إن الالتزام والانتماء شرطهما الوعي والإيمان واليقين بالعقل والإدراك، وإذا فقد اليقين والإيمان فقد معه الانتماء.
والحرية في الأدب ليس معناها أن تكون مجرداً من أي سلاح في معركة الصراع، طليقاً من أية فكرة أو فلسفة أو نظرة معينة واضحة إلى الحياة تقتنع بها في عقلك ونفسك وتؤمن أنها صالحة لبناء مجتمع أفضل وأجمل وأقوى.  ليس معنى الحرية أن تكون انتقائيا أو متنزهاً جوالاً بين الأفكار والمفاهيم دون أن يكون لك موقف ورأي واتجاه، دون أن تعتنق وتنحاز ويستقر فكرك ووعيك على أمر حاسم، دون أن تنتمي!
إن عدم الانتماء ليس معناه حرية أو فكرٍ حر أو أدب حرٍ، إنه فوضى واختلاطات فكرية ونفسية وعدم جدوى وعدم قدرة على المساهمة في تطور الفكر وفعالية الفكر وفي النهوض بالفكر والأدب والحياة وصناعة نهضة حقيقية فاعلة.  إن أصحاب المفهوم البائد للحرية مهما برعت لغتهم وجذلت ألفاظهم فأنهم يحلِّون علم الكلام محل علم الاجتماع والاقتصاد والتاريخ.  وقد قال في ذلك الراحل الأديب الكبير سعيد تفي الدين: “إن جذالة اللفظة لا تغني عن وضوح الفكرة”.
عندما يكون معنى الانتماء ومعنى الحرية واضحاً هذا الوضوح، نستطيع أن نقول بكل ثقة، نستطيع أن نجزم إن هنري حاماتي هو منتمي وحر معاً.
وعندما نفهم خاصتَي الانتماء والحرية في إنتاج هنري حاماتي يصبح فهمنا لمقالاته النقدية والفكرية والسياسية أكثر سهولة، ويصبح هو مطمئناً أكثر أننا فهمناه ووصلت إلينا فكرته وقصده، وأننا رافقناه ووصلنا وإياه الى حيث يريد.
أخيراً، عندما تقرأ هنري في بعض أعماله تكاد تسمعه يصرخ كمن يقود فرقة للقتال، تكاد ترى وجهه وكل علامات الحزم والجدّية والإصرار عليه.
وهنري لم يكن فقط صوتاً صارخاً بل كان أحياناً أيضاً سهماً جارحاً، بل كان في بعض مقالاته ورسائله غضوباً عنيفاً لا يجيد مجاملة أحد ولا يستطيع أن يمسك الكثير من الكلمات الجارحة، لكن المعبِّرة والصادقة، التي كانت تخرج من فمه ومن قلمه بحرقة وألم.
لكن من لا يرى في هنري حاماتي غير كلماته الجارحة هو كمن لا يرى في الوردة غير شوكها الجارح.