من مذكرات صالح سوداح (الحلقة الثالثة)

تحرك القطار بطيئاً … المناظر جميلة ولكن النفوس كئيبة وأحداث الأسبوع المنصرم تتلاحق في الأذهان كحركات فيلم سينمائي سريع … قبل أيام فقط لم يكن أحد ليظن بأنه مودع الأرض والوطن
دخل القطار محطة بيروت مع حلول الظلام، حاول النزول وحاور أبي رجال الدرك … لنا أقارب هنا … دعنا نتدبر أمرنا معهم … ولكن عبثاً منعنا ومنع غيرنا بالقوة … وتحرك القطار ثانية وحوالي منتصف الليل توقف … طلبت إلى أبي معرفة أين نكون … نزلت … تجولت قليلاً … إنها محطة حمص وبعد قليل واصل القطار سيره
أول لوحة تقرؤها بعد ظهور الضوء حملت اسم أبو الظهور سألني أبي عنها فأجبته لا أعرف شيئاً. يبدو أننا نتجه إلى حلب فقد مررنا بحمص وحماه ولم يبق من المدن إلى الشمال سوى حلب
ساعات ودخل القطار المدينة … وما أن توقف في المحطة حتى شاهدنا الشاحنات ورجال الشرطة. فرغوا كل عربة في شاحنة يرافقها شرطيان. تحركت الشاحنات إلى ثكنة عسكرية وجرى توزيعنا على غرف في مهاجع ذات أرقام سألنا أين نكون فقيل لنا هذه هي المضافة الأولى!!
رتبنا القليل من أمورنا في الغرفة التي خصصت لنا وهي بطول ثلاثة أمتار وعرض مترين تقريباً، ثم خرجنا نتعرف على المكان.
جلي من بنائه ومنشأته أنه ثكنة عسكرية مهجورة أو أخليت قصداً لاستقبالنا. والأسئلة كثيرة … من أين؟؟ ومتى؟؟ وكيف؟؟ ولماذا؟؟ آه من لماذا هذه!!
أغلب الظن أنهم لم يجدوا جديداً في قصتنا، إذ هي لا تختلف عما عانوه في رحلة النزوح. الغريب أنهم جميعاً يظنون الأمر مؤقتاً فالبعض يجزم أن العودة لا بد حاصلة خلال أيام بتساهل البعض الآخر فيجعلها أسابيع، وإذا تنبأ أحدهم بأكثر من ذلك جوبه بهجوم عنيف واتهم بالتشاؤم وفقدان الإيمان
وجدنا المضافة تضم مكتب للإدارة ومخفراً للشرطة ومركز لتوزيع المؤن. وعلمنا أن المسؤول هو مفوض الكشاف الأول في حلب السيد …..
فوجئنا بأن المضافة محاطة بالأسلاك الشائكة، فقلنا لعل ذلك من بقايا استخدام الجيش لها ولكن الحقيقة كانت غير ذلك، فالأسلاك جديدة ومحكمة لمنع الخروج إلا من الباب الرئيسي وبموجب تصريح يحدد ساعة الخروج وساعة العودة
مدير مفوض الكشاف، تشرفنا برؤيته. ترى لم يحمل كرباجاً في يمناه؟ وأعوانه لم هم عابسون مقطبون؟ ولماذا هذا العدد الكبير من رجال الشرطة؟ أسئلة تلقينا الجواب عليها بالتجربة العملية لا الحوار النظري
الزوار بعد الظهر … زرافات ووحداناً … من هم؟ وماذا يريدون؟ أهل المدينة يتفرجون على اللاجئين!! زيارة حلب ممنوعة إلا لعدد محدود كل يوم، فاذا سعدت بالحصول على التصريح فحاذر أن تتأخر ولو لدقائق وإلا فالجلد بانتظارك أي كان السبب. نعم … ضرب أبي مرة وكل من معه في السيارة رغم أن التأخر لم يتجاوز الدقائق الخمس ونجم عن انفجار أحد الإطارات مما اضطر السائق إلى استبداله

حلب 1948
بقيت في المضافة اثني عشر يوماً وبعدها اتفقت مع بعض اترابي على القيام بزيارة لحلب لبحث عن عمل. قضينا النهار بطوله نسأل ونتلقى إجابات سلبية، وفي طريق العودة مررت بأحد الفنادق سائلاً. وجه لي صاحب الفندق بضعة أسئلة ثم قال لي: تعال غداً وباشر عملك
مساء أخبرت أبي … بدا عليه التأثر … لم العجلة ما زال لدينا ما يقوم بأودنا … لم نبلغ حد الحاجة بعد … الخ سألته عن إمكانية عودتي إلى المدرسة مع ما يتطلب ذلك من مصاريف سكت. عدت إلى حلب وباشرت عملي
الراتب ليرة ونصف يومياً والعمل لا اختصاص فيه إذ يشمل الكفاية ومحاسبة النزلاء وخد متهم وترتيب الأسرة ومسح البلاط وكافة أعمال النظافة إذا لزم الأمر، وإعداد الكشوف وتسليمها للشرطة … الخ
الفندق من الدرجة الرابعة، غرفه ستة، وأسرته عشرون تقريباً أثاث متواضع وتجهيزاته أقل من متواضعة. صاحب يعتمد على عمل آخر يقوم به وعلى علاقاته مع أهل مدينة أخرى، والأجر الذي يتقاضاه متواضع كالأثاث. أما الزبائن فهم في الغالب من صغار التجار والسواقين ويوم نزل عندنا أحد ضباط الجيش رتبة ملازم أول أفتر ثغر صاحب الفندق عن ابتسامة عريضة جداً
كثيراً ما كان الزبائن يتحلقون حول النار ويتحدثون في السياسة … وتتردد في ثنايا الأحاديث أسماء ووقائع أسمع بها لأول مرة … شعبيون … وطنيون … – رشدي … صبري … ناظم … أكرم … الشيخ تاج … الخ، تكرار الأحاديث جعلني أكون فكرة عن الصورة السياسية للبلد … ولكن ليس لمثلي أنه يشارك في الحديث حتى بمجرد السؤال. أحد النزلاء الشباب سألني ذات يوم عما إذا كنت أؤيد أحد الأحزاب، فنفيت ذلك نفياً قاطعاً
كنت عائداً إلى المضافة وطريقي إلى موقف السيارات بالقرب من فندق بارون أفخم فنادق المدينة الذي لا بد أن ترمقه إذا مررنا به، يومها رأيت مجموعة من الشباب لا يتجاوز عددهم العشرين، واقفين في صف متنظم، وبعد قليل وصلت سيارة مدخل الفندق فترجل منها رجل قصير القامة، حاد النظرات، وإذا بإيعاز ينطلق والشباب يؤدون تحية غريبة لم أر مثلها في حياتي
لم افهم كلمات الإيعاز ولكني شدهت للتحية إذ هي ليست بالتحية العسكرية، ولا تحية الكشافة، ولا تحية الأشبال. فما تراها تكون؟ ومن هم هؤلاء؟ ومن هو هذا الرجل الذي أدوا له هذه التحية؟
لحظات، وانتهى الرجل من استعراض المجموعة وواصل سيره نحو مبنى الفندق وتبعه الرجال.
واصلت سيري دون أن أفهم وبقي المنظر يراود خاطري من وقت لآخر دون أن أقوى على تفسيره أوحل ألغازه ولم أكن أدري يومها أني على موعد للفهم

برج البراجنة 1949
انهيت زيارة لأقاربي في معرة النعمان دامت يومين زرت خلالها قبر أبي العلاء وتجولت في أحياء البلدة التي عرفت الشاعر الفيلسوف واحتضنته، وعزمت على العودة إلى حلب
وصلت طرف البلدة حيث تتوقف السيارات وإذا بصائح يصيح … بيروت … بيروت … راقت لي فكرة السفر إلى بيروت فلي فيها أقارب ورفاق دراسة أحب رؤيتهم، ترددت لضآلة ما أحمل من مال. سألت فاذا الأجر زهيد. عقدت النية وأبلغت السائق برغبتي رغم أني لا أحمل تصريح من دوائر الأمن، فتعهد هو بتدبر الأمر وهكذا كان
توقفت السيارة في حمص ساعة كاملة ثم استأنفت سيرها باتجاه الحدود مع لبنان، وقبيل وصولنا نقطة الحدود طلب إلينا السائق أن نواصل سيرنا في حال توقفه، حتى جدول ماء قريب ونبقى هناك
فعلاً، توقفت السيارة فنزلت وسرت مع الشخص الآخر باتجاه جدول الماء الذي كان على مقربه من الموقف غسلت وجهي ويدي وانتظرت قليلاً.. أتت السيارة فأقلتنا وتابعت سيرها
وصلنا بيروت مساءً فانتقلت إلى موقف سيارات برج البراجنة ونقلتني إحداها إلى هناك، وقبل أن أسأل عن أي من أقاربي لقيت أحدهم فدعاني
نزلت ليلتها في ضيافة أقاربي وتحدثت طويلاً مع قريبي وابن صفي فوزي وتقدم الليل ولم يحضر أخوه الأكبر سألته عنه، فأجاب بما يشبه الهمس: – إنه هارب. ولم؟ لأنه عضو في الحزب السوري القومي الاجتماعي والحكومة تلاحقه ولذلك فهو متوار عن الأنظار
لمت قريبي ونقدت فكرة الانتماء للحزب من أساسها ورددت ما كان يتردد على ألسنة الكثيرين من أنها وسيلة لتحقيق مآرب الزعماء والقادة والسياسيين، ولا جدوى منها لأمثالنا … الخ المعزوفة إياها
دافع فوزي بكل حرارة لا عن فكرة الانتماء للأحزاب فحسب بل وعن الحزب السوري القومي بالذات وعن زعيمه أنطون سعادة. ذكر لي أسماء الكثيرين من أقاربي وأبناء بلدي الذين دخلوا الحزب وروى لي الكثير عن حماسهم وتعلقهم بالحزب وزعيمه، ولكني بقيت على موقفي ولم أقتنع
بقينا نتسامر حتى ساعات الصباح الأولى ورغم شهرتي بأني كثير الكلام، كان هو المتحدث وأنا المستمع، إلا في القليل النادر
وكان مما ذكره أنهم اعتقلوا (م. ع) وهو من أعضاء الحزب اتخذت من ذلك حجة لدعم موقفي، إذ ما الذي سيجنيه هذا من الاعتقال والسجن، ولكني في الوقت ذاته اكبرت الموقف، فقد كان الرجل مختبئاً ولما حضر رجال الأمن لاعتقال زوجته رهينة لديهم، ظهر لهم وسلم نفسه

بيروت 8 تموز 1949
توجهت صباح اليوم التالي إلى بيروت، وما أن قاربت السيارة ساحة البرج حتى سمعنا صيحات باعة الصحف: إعدام انطون سعادة، إعدام انطون سعادة. الجميع يجأر ينفس الصرخة والناس يتخاطفون الصحف اختطافاً
تأملت ساحة البرج ووجوه الناس والمحلات التجارية…. توقفت قليلاً، اشتريت إحدى الصحف وتوجهت إلى مقهى قريب. قرأت الجريدة فاذا بها تروي تفاصيل إعدام الرجل، وإذا به على حد زعمها، جبان متردد، حاول نفي التهمة عن نفسه وإلصاقها برفاقه، ارتجف بشدة لدى سماع حكم الإعدام، وتهاوت ركبه عندما تيقن ان لا عفو عنه….. الخ
عموماً، كان الوجوم يسود ساحة البرج، فالناس قليلو الكلام، ولا يصرخ سوى باعة الجرائد، والباقون يسيرون وكأنهم على عجلة من أمرهم. رواد المقهى يتكلمون همساً، وكل يحمل جريدة يعود إلى مطالعتها
علمت مما قرأت أن سعادة قد أعلن ثورة وأن هجمات حصلت في أماكن مختلفة في لبنان وأن عدداً من القتلى والجرحى قد وقع، وأن … وأن … مما كنت أجهله ولم أسمع به من قبل
زرت أقاربي في بيروت وعدت إلى برج البراجنة مساء. لقيت فوزي فلوحت له بالصحيفة قائلاً:
تعال واقرأ لترى شجاعة من وصفت بالأمس. فرد على الفور
أهي “التلغراف”؟
ماذا في ذلك؟ فأجاب:
إنها موالية للحكومة وتكره الرجل. فتسألت:
لكن … هل تكذب الصحف؟
المهم، فتحت الصحيفة وإذا بها “التلغراف” فعلاً، فعجبت لحدسه، لكني لم أتراجع وتحاورنا طويلاً حول صحة ما جاء فيها هو ينفي ويستبعد ويستنكر، وأنا مصر على تصديق ما ورد