بتاريخ 11 تشرين الأول سنة 2022، ظهر على موقع “فسحة” الإلكتروني مقال بعنوان “أنطون سعاده والقومية السورية بعدسة ما بعد استعمارية” للكاتب الصحافي العراقي موسى الشديدي. وقد عرّف الموقع الإلكتروني الكاتب بأنه “باحث حول سياسات الجنس والجسد، له عدة كتب منها “جنسانية أم كلثوم” (2019) و”المثلية الجنسية في غزو العراق” (2020)”. وأنا أعترف فوراً بأن هذه المعلومات هي التي أثارت اهتمامي بالمقال… أكثر بكثير من العنوان الذي يمكن أن يشي بمضامين متعددة. إذ ماذا يمكن لباحث في “سياسات الجنس والجسد” أن يقول في أنطون سعاده؟ قرأت المقال بتمعن، ثم أعدت قراءته بدقة… لذلك يمكنني أن أطمئن القراء الأعزاء بأنه ـ أي المقال ـ لا علاقة له قطعياً بـ”سياسات الجنس والجسد”!
يبقى لنا أن نعود إلى عبارة “ما بعد استعمارية” الواردة في العنوان، لكي نتابع ما أراد الشديدي أن يقوله في فكر سعاده. فالكاتب يوضح منذ البداية بأنه سيراجع بعض أفكار سعاده الأساسية ومفاهيمه “بعدسة ما بعد استعمارية معتمداً بشكل محوري على أهم ما قدمه جوزيف مسعد في نقد الفكر القومي (العربي غالباً)، وبشكل أقل على ما قدمه إدوارد سعيد”. وبما أن قسماً كبيراً من قراء اللغة العربية قد لا يدرك تماماً معنى مفهوم “ما بعد استعمارية”، فقد كان من المتوقع أن يشرح الشديدي لنا طريقة تشغيل “العدسة” التي سيستخدمها في مراجعة بعض أفكار سعاده. خصوصاً وأن هذا المفهوم طُرح في الغرب الاستعماري عند منتصف القرن الماضي، ولم يتم حتى اللحظة التوافق الشامل على عناصره ومضامينه. يضاف إلى ذلك أن مثقفي بلدان العالم الثالث المعنيين أساساً بهذه المرحلة، لم يصيغوا بعد رؤية فكرية أو نقدية لما بعد الاستعمار… نستثني منهم أولئك الذين أقاموا في الغرب أمثال إدوارد سعيد وجوزيف مسعد وسليمان رشدي والطيب صالح، وسواهم.
نشأ تعبير “ما بعد الاستعمار” كصفة لدراسة المؤثرات الثقافية والسياسية والاقتصادية التي تركها الاستعمار في أقاليم جغرافية متنوعة وفي حقبات تاريخية مختلفة. وتركز استعماله في بداية الأمر على الأعمال الأدبية، سواء تلك التي وضعها المُستعمِر (بالكسر) أو المُستعمَر (بالفتح). ويُعتبر كتاب المفكر الراحل إدوارد سعيد “الاستشراق” Orientalism الصادر سنة 1978 علامة مفصلية في صياغة نظرية ما بعد الاستعمار. ومع ذلك ظل هناك تفريق بين نوعين، على الشكل التالي:
Post-Colonialism كلمتان منفصلتان يُقصد بهما البعد التاريخي، أي السنوات التي أعقبت حصول هذه الدولة أو تلك على استقلالها.
Postcolonialism كلمة واحدة هي التي تغطي الأدب والفكر والفن من خلال علاقات التفاعل أو الهيمنة بين القوة المُستعمِرة والمجتمع المُستعمَر.
ينظر الشديدي بعدسته الـ”ما بعد استعمارية” إلى جذور نظرية سعاده في القومية السورية، فيرى أن “المفكر المسيحي الماروني” بطرس البستاني هو الأول في التاريخ الذي طرح فكرة “سوريا وطناً” سنة 1860 من خلال مطبوعته “نفير سوريا” الصادرة بعد الحرب الأهلية بين الموارنة والدروز في جبل لبنان. ثم يجد أيضاً أن المبشر اليسوعي البلجيكي هنري لامنس يتحدث عن “أمة سورية متميزة، غير عربية موجودة منذ زمن الفينيقيين”. وبما أن الكاتب يؤكد في مطلع مقاله أن فكر سعاده السياسي تركز “حول نقد القومية العربية بشكل أساسي”، وبما أن “المسيحي الماروني” بطرس البستاني و”المبشر” هنري لامنس تحدثا عن الأمة السورية، فلا بد في هذه الحالة من أن يكون سعاده “تابعاً” لهما. وعند هذا الحد، تُرينا عدسة الشديدي الوضع التالي: “من الواضح أن المفهوم الأساسي لفكر أنطون سعاده، كان قد وُلِدَ ليكون مشروعاً استعمارياً، تماماً مثل القوميّة العربيّة التي يتهمها بذلك. ويبدو أنّ أنطوان (كذا) لم يكن الأب الحقيقي لفكرة سوريا الطبيعية أو الكبرى أو المتكاملة، ولا حتى الأمة السورية التي تنحدر بشكل ما من العرق الفينيقي أو مرتبطة بدولته، فكل هذه كانت أفكاراً خلقها الاستشراق والاستعمار، ولم تكن مطروحة في المجتمعات المحلية لما كان يُعْرَف آنذاك ببلاد الشام”.
كان بالإمكان قبول مناقشة هذه النتيجة التي توصل إليها الكاتب بعدسة “ما بعد الاستعمار”، لولا أنه نثر في طيات مقاله مجموعة مألوفة من الاتهامات الشعبوية المتكررة: النازية، العنصرية السورية، العداء للعروبة، تجاهل العصور الإسلامية، العودة إلى الفينيقيين، خدمة الاستعمار… أما ذروة اللامنطق من منظور عدسة الشديدي فتكمن في أنه يستجلب بعض العبارات العلمية من كتاب “نشوء الأمم” ويقولبها ليحكم من خلال فهمه لها على أحداث العالم في عصرنا الراهن. فيرى أن خطاب سعاده في النهاية “يتمحور حول النقاء، وتفوق العرق السوري الفينيقي على باقي الشعوب، وعلى عنصرية عرقية”! ويتهم الشديدي سعاده بأنه يكرّر خطاب المستعمِر الأبيض، إذ “كيف يصف المناضلين ضد الاستعمار من شعوب شمال أفريقيا بهذا الشكل؟ هذه الشعوب التي ساندت القضية الفلسطينية بالمال والسلاح والأرواح مثلاً، ضد العصابات الصهيونيّة…”. طبعاً لم يتوقف الكاتب، بل لا يريد أن يتوقف، عند مسألة بسيطة تتمثل في أن الحديث عن الانتشار الفينيقي في أفريقيا يتعلق بتاريخ يبعد عن أوضاعنا الراهنة حوالي ثلاثة آلاف سنة على الأقل.
وسواء تم استخدام “عدسة ما بعد الاستعمار” أو “عدسة ما قبل الاستعمار” فإن النعوت الموجهة لسعاده وللحزب السوري القومي الاجتماعي تبقى هي ذاتها منذ انكشاف أمر الحزب سنة 1935 وحتى اليوم. وكثيرون يستسهلون إطلاق الأحكام اعتماداً على السائد المتوافر وليس على البحث الرصين. ولا يخرج مقال الشديدي عن هذه التوجهات على الرغم من استحضار مفهوم جديد هو “ما بعد الاستعمار”. لكن يجب أن نعترف له بأن الفقرة المُعنونة “الانحطاط” تفتح أمامنا مجالاً رحباً لشرح كيفية فهم سعاده له، وأين استخدمه، وما دوره في المنظومة الفكرية للحزب السوري القومي الاجتماعي. وهذه “الإشكالية” تتكرر دائماً عند تناول مسألة السلالات، حيث يتشبث النقاد بعبارة “سلالات منحطة” الواردة في كتاب “نشوء الأمم” ويعتبرونها دليلاً دامغاً على عنصرية فكر سعاده.
أود الإشارة أولاً إلى أنني أعمل حالياً على دراسة مفردة “الانحطاط” ومفهومها ومدلولاتها في قاموس سعاده. لذلك لن أطيل في هذا المجال، مكتفياً بالجانب الأهم الذي تطرق إليه الشديدي بقوله: “يلتزم سعاده (…) بثنائية قطبية بين ما هو قومي وما هو منحط، إما أن تكون قومياً وإما أن تكون منحطاً…”. وهذا خطأ كبير لا يمكن إلا أن يكون مقصوداً. فسعاده يطرح النهوض مقابل الانحطاط، ويدعو إلى “الحياة القومية المثلى” للخروج من “ظلمات الجهل ودركات الانحطاط”. ومن غير المنطقي وضع القومية كنقيض لـ”الانحطاط”. ذلك أن هذه المفردة لا تقوم بذاتها، بل هي نسبية بالمقارنة مع واقع معين. فعندما نقول “أخلاق منحطة” نكون قد حددنا ـ ولو نظرياً ـ طبيعة الأخلاق “غير المنحطة” كمقياس معياري. لا شيء “منحطاً” بذاته، بل بمقياس محدد يصح المقارنة بواسطته. فقد حقق الإنسان القديم “ثورة حضارية” عندما صنّع الأدوات الحجرية، لكن “حضارته” تلك أصبحت “منحطة” مقارنة بالتطور الذي رافق استخدام المعادن… وهكذا.
والشيء نفسه ينطبق على السلالات والمجتمعات الأولية، كما تناولها سعاده في “نشوء الأمم” كتابه العلمي وليس السياسي! إن مفردات “انحطت، منحطة، انحطاط…” لا تؤخذ بمعناها الحرفي اللغوي المتداول، بل ترد في سياق المقارنة مع سلالات أخرى في تاريخ موغل في القدم. هكذا نشأت الأمم، سلالات وجماعات تتصادم وتتفاعل وتندمج… لكنها تتباين في خصائصها الثقافية. بعضها قد يكون على سوية مرتفعة مقارنة بالبعض الآخر، وفي هذه الحالة يستخدم الباحثون مفردة “الانحطاط” ومشتقاتها للدلالة على الفوارق بين الطرفين… من دون أن يعني ذلك إصدار أحكام عنصرية. ومن الأمثلة على ما نقول أن الشعوب الأصلية في القارة الأميركية (جماعات “الهنود الحمر” حسب التصنيف الأوروبي) تعود إلى سلالات متشابهة، بعضها حقق انجازات حضارية ملفتة في القسم الجنوبي من القارة، في حين أن بعضها الآخر في الشمال ظلّ في حالة بدائية. وللمقارنة يُقال إن جماعات الشمال هم في “انحطاط” مقارنة مع أبناء عمومتهم في الجنوب!
نشر سعاده مقاله الأول “الوطنية” في جريدة “الجريدة”، سان باولو بتاريخ 11 حزيران سنة 1921، وكان عمره سبع عشرة سنة. وقد وردت كلمة الانحطاط مرتين في هذا المقال الموجز: “… وعدم وجود الوطنية هو سر تأخر وانحطاط الأمم”، ثم “… وتظل الأمة السورية على ما هي عليه من التأخر والانحطاط”. إذن كان سعاده ينطلق من واقع عايشه في الوطن، وهو أن السوريين في حالة “انحطاط” يجب بذل الجهد للخروج منها. وحتى لو كان صحيحاً ما يقوله الشديدي من أن “الانحطاط مفهوم استعماري نابع من الاستشراق بشكل مباشر”، فما يعني سعاده ويعنينا أيضاً ليس من أوجد المفهوم بل حقيقة أننا فعلاً في وضعية أدنى بكثير من الانحطاط… وعلى مستويات عديدة!
وسنعود مرّة أخرى لتوضيح “شعارات” تتكرر دائماً، ليس لمجرد مناقشة الذين يستغلونها، بل لإظهار المضامين الفعلية التي أسبغها سعاده على مفردات الفكر القومي الاجتماعي.
(يتبع)
