الهوية القومية السورية

الهوية القومية السورية

لولا الأول من أذار لمات “وعي التاريخ” وصارت الكذبة حقيقة وتحول الحق الى باطل.
صحيح أن “الحق انتصار” كما يقول صاحب الأول من أذار، لكن “في معركة إنسانية…”، وليس من دون معركة!
لولا الأول من اذار لما اندلعت المعركة بين وعي التاريخ وتجهيله، ولما نشأ صراع بين الوجدان القومي والنزعات الانعزالية والانفصالية.
منذ أول أذار سنة 1904 الى اليوم مئة وعشرون سنة وُلِدت خلالها أجيال جديدة نشأت على ثقافة ومفاهيم تختلف وتتناقض مع ما كان سائدا في وعي الناس وذاكرتهم آنذاك. فمنذ مئة سنة كان من السهل علينا القول بأننا سوريون وبأن بلادنا سورية قد جزأها المنتصرون في الحرب العالمية الاولى والثانية ورسموا حدوداً سياسية وأقاموا دولاً – كيانات سياسية فيها على أساس طائفي ومذهبي وعرقي موالية لهم، وإنه من الواجب إعادة الأمور في سورية الى نصابها الصحيح وإعادة توحيد البلاد وشعبها وتأمين سيادتها واستقلالها.
كان قولنا بأن سورية للسوريين والسوريون أمة تامة يلقى قبولاً واسعاً وكان يمكن شرحه والاقتناع به بسهولة وإظهار أهميته كمبدأ أساسي أول من مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي.
أما اليوم، وبعد ولاِدة أجيال جديدة تربّت ونشأت على ثقافة ومفاهيم تختلف وتتناقض مع ذاكرة الجيل الذي عاصر سعاده، فقد أصبح الأمر أكثر صعوبة بكثير. صار القول في لبنان، مثلاً، بأن سورية هي للسوريين وإن السوريين هم أمة تامة كأنه قول وكلام يخصّ بلاداً أخرى لا علاقة للبنان واللبنانيين به! وصار لزاماً علينا بذل جهد أكبر لإعادة قراءة تاريخنا وإعادة توضيح هويتنا ومعرفة “من نحن”.
لا بد أولاً من معرفة أن الدول الوطنية المستقلة تنشأ بإرادة عامة واحدة مستقلة وليس بترتيبات وتسويات يتخذها المحتلون تحقيقاً لمصالحهم وبما يؤمن لهم دوام تحكمهم وهيمنتهم. إن الدول تنشأ بإرادة عامة واحدة مستقلة تحقيقاً لمصالح عامة واحدة ناتجة عن وحدة الحياة الاجتماعية الاقتصادية المادية والروحية للجماعة البشرية التي تبلغ مرحلة “القومية”، أي مرحلة إدراك وحدة مصالحها ووحدة مصيرها في وطنها الواحد، ولا تنشأ الدول المستقلة السيدة بإرادات أجنبية ترسم هي حدود الوطن وتكبره أو تصغره أو تفصّله على قياس مصالح المحتلين ووكلائهم ودوام سيطرتهم وهيمنتهم على الحاضر والمستقبل.
كلنا يسمع باتفاقية سايكس بيكو المعقودة سنة 1916 بين الانكليز والفرنسيين بموافقة ومباركة من الروس لتقسيم الوطن السوري الطبيعي واقتسام النفوذ فيه بين الانكليز والفرنسيين المنتصرين في الحرب العالمية الأولى. وكلنا يعرف كيف أن الدول التي نشأت بعد ذلك في سورية الطبيعية قد نشأت بإرادة هؤلاء المنتصرين، وإن حدود تلك الدول، أكان في لبنان أو الشام أو الاردن أو العراق أو فلسطين، قد رُسِمت على أساس المصالح الطائفية والعائلية والاقطاعية ومراعاة لاعتبارات الأقلية والأكثرية الدينية، وليس على أساس الإرادة العامة الواحدة لشعب يعي وحدة مصالحه ووحدة مصيره في وطنه الواحد كما يفترض بالدول الوطنية أن تنشأ.
في لبنان مثلاً، كانت المبررات الموضوعية الداخلية لقيام دولة فيه هي طلب الحماية من الاضطهاد الديني للأقلية المسيحية الموجودة بشكل خاص في جبل لبنان، والسعي لقيام كيان سياسي يؤمن لها حقوقاً سياسية ومدنية كانت مفقودة أو منقوصة طيلة عهود طويلة، خاصةً أبان الحكم العثماني الذي دام أكثر من أربعمئة سنة، ولم تكن نتيجة طبيعية لشعور سكّان لبنان أنهم شعب موحّد في الحياة والمصالح والمصير ومتميزاً في ذلك عن بقية السوريين في الشام وفلسطين.

ومنذ ذلك الوقت الى اليوم، أي منذ مئة عام، لا زالت شعارات حقوق الطوائف هي الراسخة في ذهن السوريين. حقوق المسيحيين وحقوق المسلمين وحقوق سائر المذاهب والطوائف هي المهيمنة في ثقافة الشعب السياسية على حساب حقوق المواطنة الواحدة المفترض أن تسود في أية دولة ديموقراطية مستقلة ذات سيادة. إن شعارات الأقليات والأكثريات والتوازن والمشاركة والتعايش والعيش المشترك، هي شعارات تعبِّر تعبيراً واضحاً وجلياً عن أن هذه الكيانات السياسية- الدول قد ٌرُكِّبت تركيباً اصطناعيا لتأمين حقوق فئة طائفية معينة وهندسة علاقاتها مع بقية الفئات الطائفية الأخرى الموجودة معها في وطن واحد. وبديهي أن هذا الوضع ليس وضعاً طبيعياً سليماً وهو معرّض للاهتزاز والخلل عند أول اختبار وأول أزمة وأول تجربة صعبة.
بديهي إذاً أنه لم تكن هناك إرادة عامة واحدة لشعب مدرك لوحدة حياته ووحدة مصالحه ووحدة مصيره في وطنه الواحد، وبالتالي لم يكن هناك فرصة أو أساس سليم لقيام دولة مستقلة تعبِّر عن إرادة عامة مستقلة. يقول في ذلك سعاده أن في سورية مجتمع طبيعي يًدرَك بداهة يجب أن يجد تعبيره في كيان سياسي واحد، وإن الحركة السورية القومية الاجتماعية هي “دولة الأمة السورية المصغرة”.
أما دولة لبنان فقد وُجِدت لمبررات جزئية هي مبررات الحماية الدينية التي كانت صحيحة في زمن الاضطهاد الديني، أما مع زوال الاضطهاد وفصل الدين عن الدولة ووعي الشعب لوحدة حياته ومصالحه ومصيره في وطنه الواحد فلا يعود للمخاوف الدينية ومبرراتها دور في نشوء الكيانات السياسية الانفصالية. ولفهم هذا القول يكفي أن نتصور في سورية الطبيعية شعباً مؤلفاً من طائفة دينية واحدة مسيحية كانت أو اسلامية، فهل كان السوريون ليقبلوا تجزئتها وإنفصال أجزائها عن بعضها في كيانات سياسية مستقلة متعددة؟ طبعاً لا.

   إن تعبير لبنان "الكبير" يدل على أنه كان هناك لبنان صغير. والحقيقة أن لبنان هو أسم لجبل في سورية قبل أن يجري تكبيره ليصبح فيه دولة ذات موارد بالحد الأدنى. 

إن تكبير لبنان وضم طرابلس وبيروت وصيدا وصور والبقاع إليه قد شهد أخذاً ورداً كبيرين وكانت له معارضات وممانعات كما قبولاً وموافقات، وكله لحسابات المصالح الطائفية وتوازناتها ومصالح الدولة الفرنسية المسيطرة بعد الحرب والمنتدبة والوصية عليه. وهذا ما دفع الاميركيين الذين كانوا يتطلعون لانتزاع دور لهم في العالم على حساب الاوروبيين، الى إرسال بعثة تقصي حقائق واستطلاع رأي بعيداً عن إرادة الفرنسيين واستبدادهم ومن والاهم من سكان جبل لبنان وبشكل خاص الاكليروس الماروني وعلى رأسه البطريرك الياس الحويك. هذه البعثة أو اللجنة التي أرسلها الرئيس الاميركي ولسون وكانت برئاسة هنري كينغ وعضوية شارل كراين عارضها الفرنسيون والانكليز ورفضوا المشاركة فيها لأنها كانت ستنقل حقيقة أن غالبية السكان وقتذاك كانت تعارض فصل لبنان عن بقية سورية وإنشاء دولة مستقلة فيه. وبالفعل فقد حصلت لجنة كينغ- كراين على هذه النتيجة التي لم ترض الفرنسيين.

والحقيقة أن المعارضة اللبنانية لم تقتصر على معارضة الانفصال وإنشاء دولة منفصلة عن بقية سورية، بل شملت أيضاً معارضة حدود الدولة الجديدة بعد تقريرها، أي معارضة ضم أو فصل هذه المدينة أو تلك وألحاقها بدولة لبنان أو فصلها عنه. حتى أن الشيخ يوسف الجميِّل مثلاً كان يعارض بشدة ألحاق بيروت وطرابلس بدولة لبنان، وكان ينسق في هذا الموضوع مع روبير دوكاي أمين عام المفوضية القرنسية العليا في بيروت، وكان الجنرال الفرنسي غورو رئيس السلطة الانتدابية قد ارسله الى باريس لمتابعة المداولات المتعلقة بهذا الموضوع مع الحكومة الفرنسية.
ويروى أيضاً أن الفرنسيين كانوا يلحظون ضم منطقة عكار كلها وما بعدها مما يصل الى تل كلخ ووادي النصارى عند مرمريتا وصافيتا وغيرهما، لكن المطران عريضة عارض ذلك بشدة لأن ضم تلك المناطق يعني تكاثر طائفة الروم الأرثوذوكس ومنافستها عددياً للطائفة المارونية في الدولة العتيدة. وقد رأى المطران أن تكون الحدود عند النهر عند المنطقة التي سميت لاحقاً على اسمه: “العريضة”.
يضاف إلى ذلك أن المطالبين بدولة لبنان الكبير خفّ حماسهم لضم صور وصيدا ومرجعيون إلى لبنان، لتصل حدوده الجنوبية إلى رأس الناقورة، بعد التعديات الدموية على القرى المسيحية في جبل عامل ربيع عام 1920. لكن الإرادة الفرنسية اتخذت قراراً بضم “الأقضية الأربعة” هو القرار رقم 299 تاريخ 3 آب 1920 مستنداً الى معاهدة “سيفر” والى ما أتفق عليه في “سان ريمو” وهذه معاهدات واتفاقات دول أجنبية لا دور للبنانيين فيها.
ولم تقتصر المعارضة اللبنانية للانفصال عن سورية على مرحلة 1920 بل تعدتها الى سنة 1936 حيث انعقد ما سُمّي مؤتمر الساحل في 10 آذار في منزل الزعيم البيروتي سليم علي سلام، وفي هذا المؤتمر برز اتجاهان: أصرت الأكثرية على الوحدة السورية بينما رأت أقلية بقيادة كاظم الصلح أن الأولوية يجب أن تعطى لمسالة الدولة المستقلة من أجل وضع حد للانتداب على أن يعالج موضوع الوحدة السورية في مرحلة لاحقة.
ومثل كل القضايا التاريخية التي هي موضع تأويلات ومزج الوقائع التاريخية بالسياسة والآراء السياسية، فقد وُجِد من المؤرخين من اعتبروا أن الدولة اللبنانية قد نشأت فعلاً تعبيراً عن إرادة اللبنانيين الجامعة. فالدكتور عصام خليفة وهو استاذ مادة التاريخ في الجامعة اللبنانية اليوم، يقول: “الدولة اللبنانية لم تفصل عن سورية كما يعتقد البعض، إنها انبثاق للذاتية التاريخية اللبنانية التي تعود على الاقل الى القرن السادس عشر وقد ولدت وتجسدت هذه الذاتية في الامارة المعنية ثم الشهابية وفي القائمقاميتين والمتصرفية”. هكذا يريد الدكتور خليفة، لكنه لم يستطع الإبحار في التاريخ والتوغل فيه بحثاً عن “الذاتية التاريخية اللبنانية” إلّا للقرن السادس عشر، في وقت أن تاريخ الحضارة في بلادنا المقدسة تمتد لآلاف عديدة من السنين، وما تاريخ المدن الكنعانية والفينيقية التي كانت منتشرة على الساحل أمام جبل لبنان إلا حقبة واحدة من حقبات التاريخ المجيد الذي شمل سورية كلها منذ ما قبل الزمن التاريخي الجلي. ولا يخفى أن السيد المسيح قد تكلم على “فينيقيا سورية” التي كانت تمتد على الساحل السوري كله من خليج الاسكندرون الى تخوم سيناء شاملة فلسطين كلها، وأن دمشق كانت في أحد المراحل عاصمة “فينيقيا البرّية”.
أن مزج التاريخ بالآراء والرغبات السياسية يؤدي بالنهاية الى تزوير التاريخ وحجب الحقائق عن الشعب. مثالاً على ذلك فإن أغلب اللبنانيين اليوم لا يعرفون أن حدود لبنان الكبير الذي أعلنه الجنرال الفرنسي غورو شملت مزارع شبعا والقرى السبعة والتي تُقدر مساحتها بـ 96 ألف متر مربع، لكن بعض غُلاة الانعزالية الانفصالية يتنكرون لهذه الأجزاء اللبنانية إذعاناً لإرادة الاميركيين ودولة العدو حتى لا ينخرطوا في المطالبة بتحريرها ودعم المقاومة.

إن اللبنانيين هم اليوم، وقد كانوا دائماً، شعب حي سليل تاريخ حضاري وعمراني واغل في التاريخ أكثر بكثير من حدود القرن السادس عشر، لكن اللبنانيين مشكلتهم الرئيسة هي “فقدان الوجدان القومي” أي ضياع الهوية وضعف الإدراك والتنبه لوحدة الحياة والمصالح والمصير التي تربطهم وتجمعهم ليس فقط بين بعضهم البعض بل أيضاً مع بقية الشعب السوري على امتداد وطنهم السوري الطبيعي، وذلك بسبب تاريخ طويل من الاحتلال التركي العثماني التجهيلي الذي أضعفَ وعيهم لوحدة حياتهم ودمر وحدتهم الاجتماعية وقضى على ذاكرتهم التاريخية ونزع السلام الداخلي منهم وزرع فيهم بدلاً من ذلك ذاكرة الاضطهاد المتبادل والحروب الداخلية والخوف والتخويف والحذر من بعضهم البعض وعدم الثقة ببعضهم البعض.
إن آفة الطائفية هي اللعنة التي حلت عليهم خاصةً أبان الاحتلال التجهيلي التركي العثماني ثم الانتداب الفرنسي.
إن بقاء اللبنانيين وكافة السوريين أسرى النعرات الطائفية واعتبارات وشعارات “التعايش” والتوازن التي تستبطن انقساما وطنياً حادّاً وخبيثاً وتتنافى مع المبادئ الأولى لمعنى الدولة الواحدة للمجتمع الواحد في الوطن الواحد، معناه تآكلاً ذاتياً بطيئاً. بل إن بقاء اللبنانيين وكافة السوريين في هذا الأسر وهذا التعايش الحذِر، معناه البقاء في دوامة التدمير الذاتي وفي دوامة الازمات البنيوية الخطيرة التي تدمِّر كل شيء على رؤوس الجميع.

إن ما يشهده لبنان ودولته وشعبه اليوم من انهيار كل شيء على رؤوس الجميع لهو دليل قاطع على أن ما بُني على أسس واهية غير سليمة هو شيء مؤقت لا يدوم ومصيره الانهيار المحتم. إن ما يحدث في لبنان اليوم من خراب سياسي واجتماعي واقتصادي شامل، وما يحدث في الشام من تشظي وانقسام طائفي وعرقي وتهديد كياني مصيري، وما يشهده الاردن والعراق من تهديدات وتداعيات مشابهة، فضلاً عمّا حدث لفلسطين، لهو دليل على أن هذه الدول لم تنشأ من الأساس على قواعد طبيعية سليمة ودائمة، وأن أوضاعنا ومفاهيمنا التي نشأنا عليها طيلة المئة عام المنصرمة هي بحاجة لإعادة نظر جذرية وإعادة تأسيس وبناء من جديد.

أمّا الترياق فقد أوجده سعاده في مبادئ الإصلاح البنيوي الجذري الحقيقي. إن مبدأ “سورية للسوريين والسوريون أمة تامة” هو أوّل المبادئ، وقواعد انطلاق الفكر بإتجاه واضح. وهو يعني أن أوّل وأهمّ خطوة يجدر بنا اتخاذها والعمل لها هي إدراك وحدة حياتنا في وطننا الواحد، وبسط سيادتنا على أرض وطننا الذي حضننا ووحّد حياتنا وكان مصدر جميع مصالحنا في هذه الحياة. إن أول ما يجب العمل له هو استعادة هويتنا القومية الصحيحة، وهو امتلاكنا لموارد حياتنا ومصادرها. بدون ذلك نفقد مقومات حياتنا وأسبابها ونصبح متسولين فاقدي الأساس المادي الضروري لتأمين مصالحنا واستمرار وجودنا.