ما هي الخصائص التي طبعت الشعب  السوري عبر تاريخه؟

ما هي الخصائص التي طبعت الشعب  السوري عبر تاريخه؟

هل يمكننا الكلام عن شخصية سورية؟
هل هناك نموذج واحد أم نماذج متقاربة؟
هل نموذج تدمر يختصرها؟
ولو شئنا أن نستخرج هذه السمات؟  فما هي مصادرنا (أساطير، أحداث تاريخية، معاهدات تشريعات، فن معماري، طقوس تقاليد؟) 
هل يمكن ان نحدد ما هي السمات الدخيلة على الشخصية السورية ومن أين اتت؟
جواب:
الحديث عن الخصائص النفسية والشخصية السورية بالمعنى الأعم تستتبع مناقشة الأرضية الثقافية والجغرافية والتاريخية التي ساهمت في بلورة هذه الشخصية عبر التاريخ.
لعل الموقع الجغرافي للمشرق ككل هو الذي منح الاجتماع المشرقي خصائصه، إضافة إلى بيئة طبيعية معتدلة \ لاسيما في الجناح المشرقي الغربي من المشرق .
مركزية الموقع ساهمت في إنضاج قيم التفاعل والانفتاح وكلما اقتربنا من الوجهة البحرية زادت هذه القيم وتفعّلتْ بأكثر من المواقع الداخلية. لهذا نجد أن الجناح الشامي يمتلك خصائص تفاعلية مديترانية \ متوسطية\ أكثر من الجناح الرافدي مثلاً.
للتفاعل الإنساني شأن مهم في بلورة الشخصية الإنسانية لاسيما إن جاء رداءً لشخصية قابلة للتفاعل والانفتاح.
نحن نذكر أسطورة أوروبا التي تحمل مضامين مهمة في فهم شخصية السوريين، صحيح أن الأسطورة لا يُعوّل عليها في الدراسات التاريخية كونها تمتلك شطحاتها، لكن ما تُعبّر عنه أحياناً يقدم جانباً معرفياً مهماً.
فما الذي يدفع “قدموس” مثلاً حين يمضي للبحث عن أخته أوروبا من أن يحمل الأبجدية الكنعانية التي نُسبتْ لمدينة جبيل، ليعلّمها للعالم المتوسطي، وما الذي يدفعه أيضاً لإنشاء مدينة “طيبة” هناك. نحن هنا مع معالم التعمير المعرفي والنفسي كونها خصيصة سورية إنسانية.
ثم ظاهرة ” اليسار”، وقرطاج، بتنا نعلم الآن أن التعمير النفسي في الشخصية السورية أدى إلى التعمير الإنساني وفق ناظم ما قلناه يوماً من أن سوريا ضرورة إنسانية.
في العصر الهلنستي حيث طغى التفاعل الإنساني على المراكز الحضارية، ورغم أن الأساس يوناني لكننا كنا أمام مساهمات مهمة جداً للمشرق في مناحي الفلسفة والعلوم والمعتقدات والفكر. نحن مع زينون الرواقي هنا \ ًالفنيقي النحيلً، كما أسماه اليونان\، مع رواد الأفلوطينية المحدثة، هكذا عبّرَ المشرق عن خصائصه، لهذا تخلو وثائق المشرق من الشعور المنغلق وتنظر إلى الوحدة الإنسانية بعين التوازن.
الأمثلة كثيرة هنا، “بابل” في الألف الأول قبل الميلاد كانت مركزاً كونياً للمعرفة، وللتفاعل وللحضور المميز، لهذا مع انفتاح العالم الهلنستي استطاعت بابل هضم وجَبَّ كل جديد وفق ناظم الأصالة في الشخصية.
هنا لا ننسى أن بابل هي حصية تراكم حضاري مشرقي بدأ منذ الألف الرابع قبل الميلاد \ إن لم يكن قبل ذلك .
هو خط تطوري مستمر يمنح ويأخذ ثم يعيد انتاج ما يأخذ بصيغة مشرقية.
” تدمر” كانت المُعبّر عن الشخصية السورية بامتياز، التجارة تفرض شروطها في التفاعل وتدمر كانت لها، لنا أن نتصور مدى التفاعلات الديمغرافية آنذاك، مع وسط هلنستي ثم روماني لتتلقف تدمر قيمها الحضارية وتُعبّر عنها.
بلاط “زنوبيا” جمعَ المتناقضات الفكرية والاعتقادية، بولص سميساطي الكاهن المسيحي، غريمه لونجينوس، الأفلوطيني المُحدث، مناقشات في حضور زنوبيا، وحين يدق الباب يدخل ممثلو “المانوية” ليطلبوا أن يقيموا معبداً لهم في تدمر.
وافقتْ تدمر.
“دورا أوروبوس” على الفرات، حوَتْ معبداً ليهود شرقيين، ودورا تحت الرعاية التدمرية.
قبل ذلك بقليل كان على ” أذينة” الملك أن يُصدر مرسوماً بمنع التعدي على المسيحيين وكنائسهم.
كل هذا يمنح دلالة على عمق البُعد الإنساني والحضاري في الشخصية السورية.
أما زلنا نذكر كيف وبانهيار المشرق مع انهيار تدمر كان إله الشمس الحمصي ينتقل إلى معبود أساسي في روما، هذا بعد إعادته مع نهاية الحقبة السفيرية السورية في حكم الإمبراطورية الرومانية إلى سوريا قبل ذلك؟
كل المعطيات الآثارية والتاريخية يُمكن لها أن تُقدم فضاءً معرفياً: وثائق، لقى، عمائر، فنون، معتقدات، والأهم تلك الاستمرارية الحضارية التي تختص بدراستها علوم الأنثروبولوجيا وسواها.
السمات الدخيلة على الشخصية السورية تراكمت عبر العصور، فمثلاً مع العصر الكلاسيكي \ اليوناني والروماني\ لا نجد انحرافاً في الشخصية السورية عن مرتكزاها، فقد استطاع المشرق استيعاب العامل التفاعلي القادم وانفعلَ كما فعلَ انطلاقاً من خصائصه، ها هو أبولودور الدمشقي يملأ روما بمنحوتاته وعمائره، وها هي مدرسة بيروت الحقوقية يتلقفها الرومان ثم تُقدَّمْ على أنها تشريع روماني! وهكذا.
الآن، بدء الانهيار كان مع سقوط القلعة التدمرية، ها هو المشرق محاصَر بالفراغ، لا مركز سياسي يُشكّل رافعة وجودية له، لا ثقل.
انعدام الرافعة السياسية شكّلَ فراغاً لاحتلالات وانسياحات بشرية سببتْ ضعف الروحية المشرقية رغم الحضور المشرقي السرياني \ الآرامي الأصل \، صار المشرق في مهب رياح الآخرين، ثقافات أضعف من ثقافته استطاعتْ أخذه إليها لا إليه، انقطعَ خط التواصل الحضاري، تأثيرات معاكسة للخصائص الشخصية المشرقية وبالتتالي تمت مصادرة المشرق الذي أصبح ذكرى حضارية متحفية لا أكثر.
ومع هذا ربما الخصائص النفسية الجمعية لعبتْ دوراً مهماً في المحافظة على ما تبقّى من شخصية مشرقية رغم الضياع الحضاري.

بشار خليف.