لم تكن ذاتا واضحة المعالم والملامح. بدت كأنها ما يشبه شكل الذات. محطمة، منهكة، ضالة، مهشمة، مفككة، مخلخلة، ممزقة، متصدعة، فاقدة لروحها. في حالة اضطراب عقلي وعصبي، فاقدة للذاكرة. عيونها تدور يمنة ويسارا، تتعرف على المكان والزمان، كأنها ترى النور لأول مرة منذ مئات السنين أو أنها سقطت للتو من عل، من كوكب بعيد، أو خرجت من عمق قبر دامس. بدت فاقدة ملكة التذكر والتركيز وملكة التعرف. لقيطة بلا أم ولا أبُ، دخيلة حديثة على عالم جديد. شعور العجز والخنوع والاستسلام والقنوط والشلل والركود، كأنها جسد مشلول فاقد الحركة وعلى قاب شعرة من الموت الذي تنتظره. يتيمة كانت. أنكرها أهلها الأقربون والأبعدون. بلا هُوِيَّة ولا بطاقة. لم يكتفوا أنهم لم يتعرفوا عليها بل أنكروها بعد أن سخروا منها وسجنوها، وقرأوا عليها آيات الموت. تاريخها كان ضائعًا مشتتًا، مزورًا ملفقًا مشوها مسروقًا. سرقوا أساطيرها وملاحمها وفكرها الفلسفي وتحليلاتها الرائعة وشرائعها وأبجدياتها وفنونها المعماري والأدبي والموسيقي والنحت والرسم، وكل منجزاتها بلا استثناء، عمومًا كل أمجادها. تاريخًا كاملًا سلخوها عنه وجردوها منه بعد أن تم تدميره وسحقه فعادت تمجد منجزاتها في تراث أعدائها. ولم يكتف أعداؤها بأنهم كتبوا تاريخها، فتم تجزأته، داخل كيانات سياسية هندسية، واكتمل استلابها حتى امتنع تفاعلها الروحي معه فلا تستمد منه أية طاقة للنهوض.
. هذا ليس نصا أدبيا. هذه هي حال الذات السورية التي وجدها سعادة. هذا واقع امتنا وذاتها في لحظة الاكتشاف. كانت عارية بالتمام تختلج في طور الاحتضار.
عاد سعاده ليكتشف تفوقها التاريخي. هي التي وضعت قواعد التفكير الفلسفي والعلمي، بعد أن اختطت الأسئلة الوجودية الكبرى التي شغلت تاريخ الدين وتاريخ الفلسفة وأسئلة الحياة والخير والشر، والنظام والفوضى، والحركة والجمود، والوجود ومعناه والموت والأخلاق والمناقب وموقع الانسان والإله في الكون والحياة. نحتت تصورات العالم والوجود والإنسان والحياة، وصاغتها في نَظْرَة كاملة ناضجة متزنة إلى الحياة والكون خطها في الحياة كان واضحا.
مضى عقلها، وقدرته الفائقة في تحدي البيئة والطبيعة. دجن الحيوان واخترع المحراث وزرع، أنشأ السدود والأقنية والقلاع والأسلحة والسفن والأساطير والمكتبات والشرائع والأبجديات وأنظمة الحكم والشرائع والموسيقى والفنون والطقوس والشعائر والرموز والخطط الحربية. بحث في السماء والفلك، ودرس حركة الأرض والنجوم، كان عقلا مبدعا. مقياسه ونموذجه واضحًا. قام بدوره في ترقية حياة الإنسان المادية والنفسية. وازن بين الثقافة المادية والنفسية وبين العقل والوجدان وبين المادة والروح. كان عمليا حافظ على الغاية في كل معرفة، فالغاية هي النتيجة. وألاهم أنه اتحد بالمناقب فكان عقلا أخلاقيا نبيلا، لا تنفصل فيه الحقيقة والحق عن الخير لم ينفصل عن منظومته الأخلاقية النبيلة. كان عقل هذه الذات عمليا أخلاقيا إراديا اجتماعيا وجوديا. لكنه عاد فتدهور. تاه بالكامل، فقد طبيعته العملية وطابعه الأخلاقي ومجاله في قضايا جدلية عقيمة. هجر الحياة ووجودها وقيمها وموقعه فيها وانصرف الى الموت وجدلياته العقيمة. في مسيرته السورية بحث عن حقيقة الموت وفك لغزه. انتصر عليه في عقيدة الخلود بالخصب. جعله دورة من دورات الحياة. الحياة قبله وبعده. والفرد زائل أما المجتمع فباق. لكنه ما ان خرج من موطنه، حتى عاد وضاع لمئات السنين في جدل الموت وخلود النفس والمطهر والقيامة. ترك كل قضايا حياته ومجتمعه وانصرف إلى حروب دموية حول قضايا الأسرار والأقانيم والمشيئات والأيقونات والمطهر والقيامة وتسمر في عقدة الخلاص. كان عقلا للحياة وهي موت الموت، فانتهى عقلا ميتا مشغولا بموته الفردي في عالم مفارق.
هذه الذات، هذه النفس، التي امتازت نفسها بالحياة المفعمة والحركة والعنفوان والكرامة والعز فكانت كريمة، معطاءة، محبة، متسامحة، رسولة حضارة تلتزم وعودها ومعاهداتها، وقد صاغت خصائصها على أساس فضائلها النفسية الراقية، هي نفسها كانت على قاب خطوة من الاستسلام والهزيمة والانحطاط. كانت مسحوقة نفسيَا لا ثقة لها بنفسها ولا بمزاياها. كل عوامل قوتها النفسية كانت في سجون حقيقة. لقد كانت في أحط أشكالها أما حركتها فكانت مشلولة. قِوَى الحركة الداخلية فيها، طاقتها النفسية الهائلة، كانت معطلة بالكامل بعد أن تم سجنها في قوالب متخلفة متحجرة أضيق من مقاس حياتها. في عادات وتقاليد ومفاهيم وطقوس وشعائر وأعراف وقوانين ونظرة إلى الحياة لا تعبر عن أي من خصائصها النفسية، انفجرت مع المسيحية المسجونة في قوالب اليهودية المتحجرة، وبعدها عادت واغتربت. لقد ضمرت قواها وخمدت طاقتها. دورة حياتها الروحية الثقافية الاجتماعية الاقتصادية المعبرة عن حركتها الطبيعية، كانت مجزأة في أقفاص تعيق انطلاق قواها وتستنزفها. كان جسدها مشلولًا مشتت الحركة، عبارة عن أعضاء مختلة الانسجام، يقودها عقل مختل البرنامَج. مشهد التزاحم والتدافع والاصطدام والتطاحن والصدام كان المشهد العام. وكانت سيادتها مكبلة ممسوحة، نتيجة طغيان السيادات ألأجنبية والدخيلة. لم تكن تخرج من احتلال الا لتدخل في احتلال. وجدانها كان في أحط أشكاله، معتقلًا في أقفاص النِّظْرة الفردية وأقفاص الطوائف والاتنيات والمذاهب والتجزئة السياسية. وكان مجزأ داخل أقفاص الكيانات السياسية والنظرة الفردية ونظرات فلسفية ابعدته عن حقيقته فلم تعد تحرك وجدانه الصحيح. كل عوامل الوجدان الصحيح لم تكن تحركها.
أخطر مصيبتها أنها كانت ترى ذاتها بعيون غيرها وتنظر إلى قضية حياتها بعيون ومقاييس ليست من طبيعتها قد صنعها الاستعمار والاستشراق والأيديولوجيات والفكر الديني المشوه. سيل هائلً من الدفق الفكري الثقافي غير المتجانس والتراجع النفسي قد منعها من تنقية نظرتها أو توليد نِظْرة جديدة هاضمة لهذا الدفق. تاهت في نَظْرَة مختلة إلى نفسها فلم تعد تعرف الأصيل من الدخيل. كان الفصل الكامل ً بين ما هو من طبيعتها وما هو دخيل. استقلال نظرتها إلى نفسها والى قضية حياتها أو القضايا الأخرى المحيطة بحياتها، كان تحديا كبيرا. هذا الاستقلال المفقود في نظرتها إلى حياتها كان الغائب الأكبر. ولم يترك لها الاحتلال فرصة، فقبل أن يخرج زج بمكوناتها في سلسلة حروب داخلية ذات طابع طائفي مذهبي، فخاضت فيها لانتفاء وعيها، تحولت الى محطات سهلة الاستحضار تستعر فيها غرائز وهستيريًا ويغيب فيه رشدها تحت وطأة هذا الاستحضار.
يتبع…