ما بين انفجار وآخر، ووسط هدير جنازير الدبابات والآليات “الإسرائيلية” التي تهدم وتقتل، تحاول الاطراف المشاركة والمتأثرة بالحرب أن تضع قواعد سياسية جديدة في مشرقنا في “محور المقاومة” من جانب وفي محور واشنطن تل ابيب ومن معهم من غرب وعرب من جانب آخر.
في حين تلتقي قوى المحور الأول بالأهداف لكنها تضع هوامش حركة لكل شريك من الشركاء ليقرر حدود مشاركته ودوره بناءً على حساباته ورؤيته لضروراته وأولوياته ولكن من دون أن يغادر الميدان، إلا أنّ محور واشنطن تل ابيب ومن معهم، وإن اتفقوا جميعًا على ضرورة تصفية المقاومة وعدم التوقف عن القتال إلا أنّ الآراء والمصالح تتباين عندهم بشكل كبير.
واشنطن ترى أنّها قائدة المحور وأنّها الأب أو الأخ الكبير الذي على باقي أفراد الأسرة الانصياع لقراراته. وتعلن واشنطن أنّها لا تريد وقفًا لإطلاق النار، مع ذلك فإنّ العلاقة غير الطيبة أصلًا بين الرئيس الأميركي ورئيس حكومة الاحتلال تلقي بظلالها على يوميات الحرب فيما يتسارع ماراثون معركة الرئاسة الأمريكية، مما حدا ببايدن لمهاتفة نتنياهو وتمرير عبارة العودة الى حل الدولتين وأنّ ذلك ممكن في ظلّ قيادة نتنياهو للحكومة ودون وقف إطلاق النار ووقف الاستيطان. لكن الحقائق ومجريات الأمور تقول أنّ هذا أمر لم يكن واقعيًّا وهو أصلًا غير موجود لا في أجندة الرئيس الأميركي ولا في أجندة رئيس حكومة الاحتلال، لا بل ولا يتفق مع الوقائع الجارية في فلسطين التي لم يبقِ الاستيطان على أرضها مكانًا للدولة الثانية مهما بلغت من الصغر والتفاهة في المساحة أو في صلاحيات الدولة الحقيقية أو الشكلية، فنتياهو يفاخر بأنّه خير من يمنع قيام دولة فلسطينية حتى ولو كانت كنتونات ومعازل.
في تل أبيب نرى أنّ جميع أرباب السياسة الفاعلة من حاكمة أو معارضة لم تؤمن عبر مسيرتها السياسية بحل الدولتين وهو ما أكده معظم المسؤولين الإسرائيليين قبل وعقب المكالمة الهاتفية بين بايدن ونتنياهو، لا بل إنّ معظم هؤلاء من أرباب الحكم أو معارضيه لا يرون أنّ للشعب الفلسطيني حقوقًا أو مكانًا في غرب نهر الأردن، ولديهم من الخطط المعلنة التي تتحدث عن ضم 60% من الضفة الغربية ومشاريع تهجير سكانها ومن يستطيعون طرده من عرب 48 الى الأردن وتهجير أهل غزة الى سيناء.
الأوروبيون والشركاء في الأطلسي مع التزامهم الكلي مثل ألمانيا وانجلترا بالسياسة الأميركية (الإسرائيلية) أو الجزئي كما في باقي القارة، يرون أنّهم من يدفع الثمن إن بسبب أزمة الهجرة التي وصلت لدرجة تغيير طابع المجتمع الأوروبي، وإن بسبب ما يجري في البحر الأحمر من عرقلة للملاحة أدّت الى ارتفاع أسعار السلع وتأخّر وصولها، وهي التي عانت كثيرًا في الشتاء الماضي بسبب عرقلة إمدادات النفط والغاز القادم من روسيا وارتفاع أسعاره بسبب الحرب الروسية الأوكرانية وستعاني هذا الشتاء أكثر بسبب الاضطراب الملاحي المرشح للمزيد من التأزم في البحر الأحمر والذي سيعرقل ويؤخر وصول النفط الخليجي ويرفع من أسعاره.
أما محور واشنطن تل ابيب العربي والذي يطلق على نفسه اسم محور الاعتدال فيما يطلق عليه اسم محور التطبيع الابراهيمي فنراه يتقافز من حال الى حال، كما نلاحظ في تصريحات وزير الخارجية السعودي الذي يؤكد أن التطبيع قادم ولكن بعد إيجاد حل للمسألة الفلسطينية، ويبدو أنهم يرون الحل في القضاء على المقاومة في نهاية الحرب الحالية، ويكفيهم قبول إسرائيل اللفظي بإقامة دولة فلسطينية فيما مطلوب منهم في كل حال الدفع النقدي وتحويل عائداتهم النفطية لمعالجة تبعات الحرب وما احرقته وهدمته وقتلته آلة الحرب الغربية (الإسرائيلية).
على الضفة الأخرى من الحرب لا زالت المقاومة الفلسطينية في غزة تخوض أشرس المعارك وفي سائر أرجاء القطاع، بما فيه القاطع الشمالي الذي أعلن جيش الاحتلال المرة تلو المرة أنه أنهى وجود المقاومة فيه، ولا تبدي المقاومة لا ضعفًا ولا انصياعًا لشروط الاسرائيلي بقدر ما هي متمسكة بشروطها. في البحر الاحمر الذي يكاد أن يصبح بحيرة يمنية، يمر عبرها من يسمح له اليمنيون ويمنع من المرور السفن المتوجهة الى ميناء ايلات، تضرر “الإسرائيلي” من ذلك كثيرًا وتضرر معه حلفاؤه وأصدقاؤه، والأهم أنّه كشف قوة هذا اليمن القوي بإرادته لا بأسلحته وثرواته، وتترد قوى أطلسية وعربية عديدة في التورط معه في عملية عسكرية.
في لبنان تستمر المواجهات وترتفع حرارتها وإمكانيات تحولها الى حرب قد تحاول المقاومة تجنبها والإبقاء على مستوى الاشتباك الحالي، ولكنها جاهزة لخوضها إن فرضت عليها. في العراق وشرق الفرات تتعرض السفارات والقواعد الأميركية للقصف اليومي ومعها مكاتب أمنية إسرائيلية، وترتفع مطالبات عراقية شعبية ورسمية تطالب بمغادرة القوات الأميركية أرض العراق.الحرب لا زالت طويلة، وإن اتسعت شمالًا مع لبنان فسنبدأ العد لها من جديد، ما يقلق فقط هو الحال الإنساني في القطاع وهو ما يستدعي العمل على حماية صمود أهل غزة المدنيين ويستدعي ضرورة التحرك من أجل العمل عربيًا ودوليًا، رسميًا وشعبيًا بما يخفف من تلك المأساة بجانبها الإنساني.