أيا كانت الدواعي المباشرة للعدوان الأنجلوسكسوني الأخير على اليمن وشعبه وسيادته وقواته، وأيا كانت أقنعة هذا العدوان وذرائعه، فهو أخطر وأكبر من لحظته الراهنة.
فلا أحد يصدق الأسباب التي ساقها المعتدون الإمبرياليون ومطابخهم الاستخباراتية والسياسية، ناهيك بأن بضاعة القانون الدولي وأمن الملاحة وأشباه ذلك، بضاعة لم تعد تجد من يشتريها أو يتداولها حتى في الأسواق السياسية الناشئة، اللهم بعض الأوساط الإعلامية التي لم تعد تثير أحدا.
ولم يعد الرأي العام أيضا منشدا إلى زوابع الخماسين الطائفية والاستثمار فيها وإحالة كل ما يجري إلى المعزوفة المشروخة المعروفة بالهلال الشيعي والخطر الإيراني.
يشار كذلك إلى تقدم الوعي السياسي وحساباته على الوعي الأيديولوجي، خاصة وأن غالبية القوى المنخرطة في الصراع أبعد ما تكون عن القوى المؤدلجة في اللحظة الراهنة.
ومن العبث أية مقاربات من هذا القبيل، فما يجري عمليا يعكس أشكالا وتعبيرات مختلفة من صراع المصالح بالدرجة الأولى، حيث يقع الخلاف والتباين في مقاربة هذه المصالح لا خارجها وفي كشف الأسئلة الحقيقية عن نفسها في المستوى السياسي.
ثمة مصالح لجميع القوى المقصودة حيث يتجلى التباين في النقاط التي تتقاطع فيها المصالح أو تتناقض وتدخل في مستويات مختلفة من الصراع، فتتحدد المواقف وتتحدد المعسكرات بدلالة القضايا الأساسية، سواء كانت سياسية أو عسكرية أو اقتصادية، وهي في منطقتنا القضايا التي تتحدد بدلالة الموقف من الكيان الصهيوني كتناقض تناحري رئيسي لكل الأمة، ومن حلف الأطلسي الذي يغذي هذا التناقض، كما بدلالة أدواته وتجلياته الأخرى في الحياة الاقتصادية – الاجتماعية مثل البنك الدولي، الذراع الاقتصادي للتبعية في كل مستوياتها.
انطلاقا من ذلك وفي ضوء هذا التشخيص فإن دولا إقليمية أو في الإقليم تقيم علاقات مشينة وثيقة مع العدو الصهيوني وتحتضن قواعد الأطلسي وتخضع لسطوة إملاءات البنك الدولي، غير القوى التي تعلن مواقف مناهضة، أيا كانت حرارة تلك المواقف، فيصبح من ضرورات وتجليات الانتباه للمعايير السياسية، التمييز بين امتدادات الرأسمالية المتوحشة الغربية وطابعها الاستعماري المتجدد، وبين روسيا والصين، فرغم أنهما غادرتا الاشتراكية منذ زمن إلا أنهما تتحفظان على حلف الأطلسي وفلسفة السوق المطلقة وسياسات البنك الدولي وتقيمان علاقات باردة مع الكيان الصهيوني.
تأسيسا على ذلك وبالمحصلة فإن تشخيصا موضوعيا لمحور المقاومة يجعله عنوانا وطنيا لكل شعوب المنطقة ويوفر مكانة خاصة لأنصار الله ليس بوصفهم مجرد قوى أخرى من المحور عبرت عن ذلك بحصار السفن الصهيونية وما في حكمها، بل أيضا بوصفهم لاعبا يتمتع بميزات استراتيجية في حرب الجيوبوليتيك التي باتت السمة العامة للصراع الدائر بين غرب رأسمالي مأزوم وبين شرق عالمي يتقدم حثيثا نحو صدارة المشهد الدولي.
قبل الذهاب أكثر في قراءة هذه الأهمية لليمن، نذكر بأن مفكرين من الغرب لا من الشرق هم الذين توصلوا إلى أن عوالم الجيوبوليتيك هي التي ستقرر مصير العالم في الألفية الجديدة، فاعتمادا على راتزل الألماني وماكندر البريطاني وسبيكمان وماهان الأمريكيين، استعاد بريجنسكي قبل وفاته، والذي يعد العقل السياسي للإمبريالية الأمريكية، استراتيجيات الجغرافيا السياسية المذكورة ليرسم خارطة طريق لشكل العالم القادم.
خارطة تبدأ من السيطرة على المناطق والممرات البرية والبحرية الحيوية مثل اوراسيا وقلبها الروسي ومجالها الحيوي الأوكراني، وكذلك طريق الحرير والحزام الصيني، وتنتهي بمفاتيح القوس الشرق الأوسطي والقرن أفريقي التي ترتبط بالجغرافيات المذكورة.
وهو ما يحيل حتما إلى أهمية الجغرافيا السياسية لباب المندب والقوى اليمنية الوطنية التي تمسك بمفاتيحه، ليس بالنسبة للتجارة الدولية وحسب، بل ولحركة الأساطيل البحرية نحو بحر الصين الجنوبي، أحد أهم البؤر الساخنة الوشيكة على خارطة الطريق الأمريكية المشار لها.
ذلك ما يفسر الاهتمام المضاعف عند الأطلسي وعواصمه وأساطيله بحركة أنصار الله واليمن عموما، إضافة إلى ما أطلقه موقفهم التضامني مع غزة من تداعيات جيوسياسية، وإلى ما يمثلونه في محور المقاومة شمالا حيث القوس الشرق الأوسطي الآخر المهم في حرب الجيوبوليتيك.
وبالتالي فإن استهداف اليمن وأنصار الله استهداف مركب، في خدمة الكيان الصهيوني من جهة، ولا سيما بالتقاطع مع جلسات محكمة العدل الدولية، ومن جهة ثانية في سياق التموضع السياسي لأنصار الله في محور المقاومة المتقاطع موضوعيا وسياسيا مع القوى الدولية والإقليمية الصاعدة، روسيا والصين وقوى البريكس.
وليس بلا معنى أن الاستهداف المذكور استهداف دونه تاريخ قريب على مدار السنوات الأخيرة وعبر أدوات إقليمية ومحلية معروفة، ولم تفعل العملية البطولية الشجاعة للمقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر وما أعقبها من عدوان صهيوني همجي مدعوم من التحالف الأنجلوسكسوني، إلا تأكيد الدلالات الاستراتيجية لأهمية باب المندب والإمساك به من قبل أنصار الله والقوات المسلحة اليمنية.
عدوان بلا آفاق
كما أفغانستان، وبالنظر إلى وعورة الجغرافيا الطبيعية والسياسية والاقتصادية اليمنية، فمن الصعب أمريكيا تحويل اليمن إلى بنك أهداف مفتوح وسهل قابل للاستثمار والضغط والترجمة السياسية، وهو الأمر الذي صار جزءا من تاريخ اليمن والصراع عليه وحوله، مما جعل هذه البلاد عصية المنال على كل الغزاة مهما استخدموا من تكنولوجيا متقدمة في كل مرة.
والأهم أن اليمن اليوم في اصطفافه السياسي لم يعد وحيدا في مواجهة الابتزازات والتهديدات الأطلسية ولا يعيش لحظة تعثر وتهديد شبيهة بتلك التي عاشتها قوى سابقة ودفعت ثمنها مثل العراق ويوغوسلافيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، ومثل ليبيا عشية ربيع الفوضى الأمريكي.
وثمة ما يقال عن رصيد شعبي كبير لأنصار الله وقادتهم على مستوى الأمة كلها بعد قراراتهم الشجاعة إلى جانب الشعب الفلسطيني بتعطيل الملاحة أمام سفن العدو الصهيوني وما في حكمها.
وهو رصيد لم يكن متوفرا قبل هذه القرارات في ضوء تداعيات ومناخات الاحتقان المذهبي التي رعتها وغذتها أقلام الاستخبارات الأمريكية والبريطانية والعثمانية الجديدة طيلة سنوات العشرية السوداء، فقد أظهرت الاستطلاعات الأخيرة أن قادة أنصار الله يتصدرون المشهد الشعبي على مستوى الأمة إلى جانب العناوين الوطنية الأخرى.