لم تطلق حرب في العقود الأخيرة من التداعيات ما أطلقه القساميون بعد اجتياح المعسكرات والمستوطنات الصهيونية المسلحة في غلاف غزة، وما تبعه من عدوان همجي وحشي صهيوني على المدنيين.
من هذه التداعيات ما يستدعي التأكيد عليها وإضاءتها أكثر، ومنها ما يستدعي التحذير من التهويل بها، ومنها ما يستدعي التصدي لها:
- ما بعد حماس، حماس.
- مكاسب تستدعي لفت الانتباه أكثر.
- قوى الطوق بدل دول الطوق.
- تهديدات بلا آفاق.
- الإزاحات الخطرة.
ما بعد حماس، حماس
بالرغم من كل المبادرات والتحليلات التي أغرقتنا بها الميديا والمنابر المختلفة والتي تذهب إلى أن المقاومة وخاصة حماس ستغادر القطاع، راضية أو مكرهة، وأن سلطة التنسيق الأمني الفلسطينية ستكون جاهزة لإدارة هذا القطاع بإشراف إقليمي أو دولي، فالأرجح أن ما بعد المقاومة في القطاع هو المقاومة وعلى رأسها القساميون، أيا كان حجم حضورها في أية ترتيبات مقبلة، بل أن الحركة قد تكون بحاجة إلى غطاء ما يساعد على إعادة إعمار القطاع.
ويأتي هذا الاستنتاج بناء على المعطيات الميدانية لأساليب قتالية (حرب عصابات) تخدم حماس وقوى المقاومة أكثر من العدو (جيش تقليدي مدرب على الحرب الخاطفة)، ناهيك بالتداعيات والضغوط السياسية الناجمة عن حجم الجرائم الصهيونية والدعم الأمريكي لها وما باتت تسببه من إحراج في الرأي العام العالمي.
مكاسب مهمة تحتاج إلى لفت الانتباه أكثر
بالإضافة إلى صمود المقاومة الأسطوري الذي يؤشر على آفاق غير مسبوقة في كسر شوكة العدوان وغطرسته، ثمة مكاسب شديدة الأهمية لم تناقش كما ينبغي حتى الآن وتؤكد في الوقت نفسه على الدور الكبير لحزب الله من جهة، ولدور الجهاد الإسلامي وبقية الفصائل في الضفة الغربية، وذلك بالإضافة للدور الأساسي لحماس.
تتمثل هذه المكاسب في تفريغ الغلافين، الشمالي (شمال فلسطين المحتلة وجنوب لبنان)، والجنوبي (غلاف غزة) من المستوطنات الصهيونية والبناء على ذلك من أجل إطلاق هجرة معاكسة، وبالمثل فتح ملف المستوطنين والمستوطنات في الضفة الغربية عبر فصائل المقاومة المختلفة وخاصة حركة الجهاد الإسلامي.
قوى الطوق وسوريا بدل دول الطوق
كما الفشل الصهيوني أمام حزب الله 2006، كشفت معارك غزة والفشل العسكري الميداني لجيش العدو الصهيوني أمام مقاتلي القسام والجهاد وفصائل المقاومة الأخرى، أن قوى المقاومة الشعبية المسلحة غير الحكومية تخطت عمليات استنزاف وإنهاك القوى التقليدية من جيوش الاحتلالات، الأمريكية والصهيونية.
وهو الأمر الذي ظهر في تجارب أخرى في أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي وآسيا وافريقيا، مما يعني في حالة الصراع العربي الصهيوني أن بالإمكان بناء منظومات اشتباك وقتال مزدوجة مشتركة من قوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية والعراقية، ومن جيوش مثل الجيش العربي السوري بالإضافة إلى أنصار الله عند باب المندب، وذلك بديلا عن فكرة دول الطوق التي سبق للرئيس الراحل جمال عبد الناصر أن طرحها بعد تحويل العدو الصهيوني لمجرى نهر الأردن 1964.
وقد أظهرت أشكال الإسناد العسكري الميداني للمقاومة الفلسطينية في غزة، من حزب الله تحديدا ترجمة حقيقية لدلالات قوى الطوق في تفريغ الغلافين الشمالي والجنوبي في فلسطين المحتلة من المستوطنات، الخزان البشري للكيان الصهيوني.
مجرد تهديدات
تهدد أوساط صهيونية وأمريكية بنقل المعركة شمالا (سوريا، حزب الله، إيران، المقاومة العراقية) وجنوبا أنصار الله في اليمن، ولكن ما الذي بوسع التحالف العدواني الإجرامي الأمريكي – الصهيوني أن يحققه على هذا الصعيد في ضوء تجارب وإخفاقات معروفة في كل الجبهات المذكورة:
- في اليمن، وقبل التحالف الدولي الذي شكلته واشنطن غطاء لتدخلها في البحر الأحمر، سبق وشكلت تحالفا آخر باسم التحالف العربي وزودته بكل الأسلحة المتطورة مع حملة تحريض وتشويه معروفة، وكانت النتيجة تضاعف قوة أنصار الله وتراجع التحالف المذكور.
- في العراق وعلى مدار عقدين كاملين من الاحتلال الأمريكي وقواعده وأدواته المحلية والإقليمية، كانت النتيجة تطور المقاومة العراقية واتساعها.
- في لبنان، يعرف الأمريكيون والصهاينة أن قوة حزب الله وتجربته صارت أضعاف اضعاف ما كانت عليه عام 2006 حين أجبر العدو على الانسحاب بقدرات أقل مما صارت عليه قوة الحزب اليوم.
- في سوريا، ما هي أهمية وحجم أي تدخل لواشنطن وتل أبيب وأعوانهما، وما قيمة الذرائع التي تسوق ضدها اليوم على هذه الجبهة أو تلك، قياسا بالحملة التي تعرضت لها سوريا خلال العشرية السوداء (نصف مليون مرتزق وإرهابي ومئات المليارات وماكينة أكاذيب إعلامية مدوية ومعروفة.
الإزاحات الداخلية المشبوهة
بعد معركة الكرامة 1968 التي خاضها الجيش الأردني والمقاومة الفلسطينية جنبا إلى جنب ضد العدو الصهيوني وحققا فيها أول نصر عربي بعد هزيمة حزيران 1967، نجح العدو الصهيوني بإزاحة هذا الإنجاز نحو الداخل الأردني خوفا من المراكمة الوطنية والتأسيس عليه.
فبعد أقل من عامين تمكنت قوى مشبوهة من تحويل التوتر في العلاقات بين مؤسسات الدولة وبين تحالف المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية الأردنية، إلى ما بات يعرف بأحداث أيلول 1970، حتى أن مقاتلين من الطرفين شاركوا في معركة الكرامة معا، وقفوا وجها لوجه ضد بعضهم في سياق ترتيبات إقليمية ودولية معروفة لإغلاق هذه الجبهة المهم ضد العدو.
- بعد العبور الكبير للجيوش المصرية والسورية لخط بارليف وقناة السويس والجولان، وإيقاع إصابات هائلة بالعدو في حرب تشرين 1973، وفرت دعوة السادات المفاجئة لوقفة ومراجعة القتال الفرصة للعدو للإطباق على الجبهة السورية، ثم الانتقال إلى اختراق القناة مجددا وصولا إلى كامب ديفيد وما تلاها في أوسلو ووادي عربة.
- بعد اندلاع الثورة الإيرانية ضد نظام الشاه العميل لواشنطن وتشكيل أكبر محور دولي إقليمي في نهاية ثمانينات القرن العشرين (ضم روسيا وأفغانستان بعد انقلاب عسكري يساري، وسوريا والعراق، وحركة المقاومة الفلسطينية والمعارضة الوطنية اللبنانية)، وهو محور كما يلاحظ امتد من قلب آسيا إلى البحر المتوسط، وكان يهدف فيما يهدف إليه إلى تطويق الاستراتيجية الأمريكية وبضمنها كامب ديفيد، بعد تشكيل هذا المحور قامت الاستخبارات الأمريكية وتحالفاتها بإغراق أفغانستان بالجماعات الأصولية التكفيرية، وكان الأخطر هو نجاح واشنطن بافتعال جبهة بديلة عن الجبهة مع العدو الصهيوني عرفت بالجبهة الشرقية، وذلك بعد الإطاحة بالبكر في العراق وفتح جبهة مع إيران.
- بعد تراجع العدو الصهيوني أمام حزب الله 2000 و2006، كرر العدو لعبته القديمة على الجبهة الأردنية بعد معركة الكرامة 1968، ولكن هذه المرة بأدوات جديدة، فمقابل لعبة التحريض الجهوي في الأردن استخدم في لبنان أساليب وأدوات مختلفة مثل قوى ومناخات الاحتقان الطائفي وقوى الثورات الملونة المتورطة في صرف الانتباه عن قضايا التحرر الوطني، والأخطر من ذلك محاولة شيطنة أي شكل من أشكال الاشتباك مع العدو.
- بعد طوفان الأقصى والسابع من أكتوبر 2023، والإنجاز الكبير للمقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حماس ضد العدو الصهيوني، عاد هذا العدو إلى لعبته المجربة بأشكال جديدة.
فمقابل التحريض الجهوي في الأردن، والطائفي في لبنان، لجأ هذه المرة إلى التحريض على المقاومة في غزة من باب تحميلها جرائمه ضد المدنيين ومحاولة جر جزء من بيئة سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية إلى هذا الخطاب، ولنتذكر هنا أن سياسة القصف والتدمير العشوائي الصهيونية سياسة ثابتة ضد كل خطاب مقاوم.
فسبق أن استخدمها ضد قرى أردنية بعد معركة الكرامة 1968 وضد قرى لبنانية خلال معارك 2000 و2006، ومن المؤسف أن تنخرط في حملة كهذه أوساط من سلطة الحكم الذاتي تحضر نفسها ويجري تحضيرها لتكون جزءا من منظومة الأمن الصهيوني البديلة.
نختم بالتأكيد في ضوء ما سبق من معطيات ومقاربات، على أن ما بعد حماس في غزة، حماس.