الكتابة المسمارية: عمرها يوازي عمر الأبجديات
يعتقد بعضهم، عند الحديث عن الكتابة المسمارية، أنه بصدد منظومة كتابية عُرفت قبل آلاف السنين في بلاد ما بين النهرين ثم انتشرت في الشرق الأدنى القديم كله، قبل أن تموت بعد قرون قليلة من دون أن تترك أية آثار فعلية في المنظومات الكتابية الأخرى التي شكلت أساس الأبجديات الراهنة.
غير أن هذا الاعتقاد مجرد وهم سببه غياب المعرفة بالمجالات الواسعة التي طرقتها اللغات المكتوبة بالمسمارية قديماً. ذلك أن الكتابة المسمارية التي اخترعت في جنوب بلاد الرافدين في الألف الثالث قبل الميلاد ظلت حية حتى القرن الميلادي الأول، أي أن دورة حياتها تساوي – بل وتتجاوز – دورة حياة الأبجديات التي نستعملها اليوم في مختلف أنحاء العالم.
والوهم الثاني الآخر هو اعتقاد بعضهم أن الأبجدية الأولى في العالم (أبجدية أوغاريت) كانت اختراعاً مميزاً ومنفصلاً عن التطورات المماثلة في الداخل السوري. لكن الاكتشافات الآثارية المتلاحقة التي قدمت للعلماء نماذج متنوعة من الكتابات المسمارية مكنت الخبراء من ملاحظة التطورات والتحسينات التي أدخلت على المنظومة الكتابية الأولى، وساعدتها بالتالي في الانتقال من المرحلة التصويرية إلى المرحلة الأبجدية.
وهناك اعتقاد ثالث أسقطته الاكتشافات الحديثة، وهو أن الكتابة المسمارية التي كانت بالفعل اختراعاً رافدياً (ما بين النهرين) لم تظل حكراً على الجناح الشرقي من الهلال الخصيب. فالألواح الطينية الموجودة في أرشيف مدينة إيبلا السورية أثبتت أن عملية تطويرية أخرى كانت تجري في الوقت نفسه مع العمليات المماثلة في بلاد سومر وآكاد. بل عثر علماء الآثار في تل براك وحبوبة الكبيرة في سورية على ألواح طينية تحمل ما يُعتقد بأنه بدايات الكتابة التصويرية، تماماً كما في الألواح القادمة من مرحلتي أوروك وجمدت نصر في جنوب بلاد ما بين النهرین.
بداية الكتابة
لا يمكن إعطاء تاريخ محدد لبدء الجهود الكتابية في بلاد ما بين النهرين، أو أي مكان آخر في العالم آنذاك. ولكن اعتماداً على الألواح الطينية المكتوبة بالإشارات التصويرية، استطاع العلماء وضع إطار زمني لبدء الكتابة في جنوب سومر يتراوح في حدود 3000 ق. م، وربما أبعد من ذلك بقرون. أما مكان الاختراع فمتنوع، إذ إن التنقيبات قدمت لنا مجموعة من الألواح التصويرية التي تشكل المحاولات التسجيلية الأولى من أوروك وجمدت نصر ونينوى وتل براك وحبوبة الكبيرة. ومع ذلك، فإن التطور الأبرز حدث في بلاد سومر عندما تولى الكتبة المتخصصون إدخال التعديلات اللازمة كي تتحول الصور إلى مقاطع، وبالتالي تسهيل الأمور الإدارية والاقتصادية التي اخترعت الكتابة من أجلها في الأساس.
ويتفق العلماء كلهم على أن اختراع الكتابة إنما كان لحاجات اقتصادية. فالمحاولات الأولى تظهر صور حيوانات أو مواد غذائية وإلى جانبها إشارات تدل على أرقام معينة. إذ إن تحول المستوطنات الزراعية الأولى في بلاد ما بين النهرين إلى مراكز سكنية واسعة أوجد أنماطاً جديدة من العلاقات الاقتصادية، تطلبت بدورها وسيلة تسجيل دائمة وموثوقة أكثر من الذاكرة البشرية. وكانت الخطوة الابتدائية سهلة جداً: صورة الحيوان أو السلعة ومعها الرقم. بعد ذلك اختصرت الصورة إلى جزء، رأس الحيوان مثلاً وليس جسمه كله. ومع أن هذا الاختصار كان قفزة كبيرة في المحاولات التطويرية، إلا أن أربعة قرون مرت قبل تحقيق التطوير اللازم لتمكين الكتابة من تجاوز التسجيل العددي البسيط إلى سرد التاريخ البشري بكل تجلیاته.
في حدود 2800 ق. م، وفي مدينة أور الملكية، حدث تطور جذري. الصور المستعملة للدلالة على الأشياء عُدّلت بطريقة جنبت الكاتب المهمة الشاقة المتمثلة في الرسم على الطين. وبدلاً من الخطوط المنحنية والمستقيمة استعمل السومريون القصب المتوافر بكثرة في أهوار الجنوب ليسجلوا على الطين أشكالاً مستقيمة ذات شكل مسماري ظلت توحي بالصورة التي أرادت التعبير عنها. ومع الزمن (نتكلم هنا عن قرون عدة) فقدت الأشكال المسمارية الجديدة صلتها بالأشكال التي كانتها في الأساس، وبدأ السومريون يعطون كل شكل قيمة صوتية، ويعطون الكتابة قيمة قواعدية. وفي تلك الفترة بالذات نبدأ بالتعرف على اللغة السومرية المكتوبة بالخط المسماري.
وبين 3000 ق.م. وحوالي 75 ميلادية، كانت الكتابة المسمارية تمر في طريقين متمايزين، شكّلا إطار تطورها، وربما نهايتها أيضاً. الطريق الأول يتعلق بالنمو الداخلي للغة والكتابة، فالنمو الحضاري للمجتمع السومري أوجب على الكتبة إدخال تعديلات واسعة وبصورة مستمرة على النظام الكتابي المسماري كي يتواكب مع الاحتياجات المتزايدة وكذلك مع دخول شعوب أخرى إلى الساحة الحضارية في الشرق القديم. أما الطريق الثاني فهو مرتبط جذرياً بتلك الشعوب، ذلك أن اللغة السومرية تختلف عن اللغات الآكادية والبابلية والآشورية والعیلامية والحثية والإيبلائية (وكلها كتبت بالحرف المسماري)، مما دفع بالتالي إلى عملية تغيير بالنص الكتابي کي يتوافق مع هذه اللغات. وعندما حدث ذلك، كانت الخطوة الأولى الموصلة إلى الأبجدية كما عرفناها في أوغاريت وجبيل وسيناء.
الأبجدية المستعملة حالياً تعود إلى ثلاثة آلاف سنة تقريباً، والكتابة المسمارية التي ماتت في القرن الميلادي الأول بعد مرحلة نزاع طويلة عاشت ما يقارب المدة الزمنية نفسها. وإذا كنا اليوم لا نفكر كثيراً في الخلفيات اللغوية وسط خضم إعلامي هائل، فان الكتبة السومريين الأوائل كانوا يضعون اللبنة الأساسية في عمارة الحضارة الإنسانية المعاصرة. واعتماداً على تلك الأحرف البدائية الصعبة والمعقدة، تركوا لنا ملاحم وتواريخ وسجلات لولاها لظلت معرفتنا بالتاريخ مبتورة وغارقة في دياجير الماضي السحيق.