الضغط والانفجار

الضغط والانفجار

منذ الساعات الأولى لاندلاع حرب تشرين الثانية، حدّدت “إسرائيل” أهدافًا غاضبة انفعالية للحرب، ولكنها ما لبثت أن فتحت الأدراج لتنفض الغبار عن ملفات كانت متروكة للزمن، وأبرزها ملف خطة تهجير أهالي غزة إلى سيناء، ولعلّ هذا ما قصده نتنياهو عندما قال: “سنقوم بتغيير خارطة الشرق الأوسط”، ثم عاد وقال: “إنّها حرب الاستقلال الثانية”، الأمر الذي علينا قراءته على أنّه يخطط للنكبة الثانية من قتل وتدمير وإفراغ الأرض من ساكنيها واقتلاعهم وتهجيرهم.
منذ الساعات الأولى للحرب حدّدت واشنطن ومعها الغرب موقفهم الداعم “لإسرائيل”، لا بل الشريك لها في الحرب، والشراكة هنا تعني المشاركة في القرار كما المشاركة في النتائج، فتم تكثيف التواجد الغربي السياسي والعسكري، كما تمثل تكثيف التواجد السياسي بالحجيج الغربي الى تل أبيب، و كان أول الحجاج هو الرئيس الأميركي ثم الفرنسي ورئيس الوزراء الإنجليزي والمستشار الألماني وغيرهم، ويقوم اليوم وزير الخارجية الأميركي بزيارته الثالثة للمنطقة. منذ السابع من تشرين الأول كان بلينكن قد قال في زيارته الأولى أنّه قادم باعتباره يهودي أولًا ثمّ وزيرًا للخارجية. أمّا الوجود العسكري فتمثّل بالمستشارين العسكريين الأميركيين أصحاب الخبرة في أفغانستان والعراق، كما تمثّل بإرسال الأساطيل للبحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر.

في زيارته الثالثة يبدو أنّ بلينكن والإدارة الأميركية قلقان من عدم قدرة المستوى السياسي في “إسرائيل” على إدارة هذه الحرب، و لا بد من ايجاد حل لذلك، و مهمة الأساطيل اليوم التصدي للهجمات التي تستهدف إسرائيل من اليمن وقد تستهدفها من أماكن أخرى، ولردع أي ردات فعل غير محسوبة، قد تؤدي الى توسيع الحرب التي تجري اليوم على بقعة متناهية الصغر في حجمها لتصبح حربًا شاملة بل تفتح أبواب الجحيم.
يجد الأميركي الرسمي نفسه بين مطرقتين وسندان، المطرقة الأولى هي أنّ إسرائيل قد استنفدت الوقت المسموح به لارتكاب جرائمها الغاضبة، مما حرك ملايين المتظاهرين يوميًا على طول العالم وعرضه، فيما قدّرت مظاهرة السبت الماضي بواشنطن ب 30 ألف متظاهر وصل بهم الأمر الى الهتاف “بفلسطين من النهر الى البحر”، والمطرقة الثانية هي في الحفاظ على إبقاء الحرب حربًا محدودة في مكانها وحجمها وعدم اتساعها لتتحول الى حرب إقليمية، فدخول اليمن يعني تهديد الملاحة في البحر الأحمر والخليج، ومن شأنه خلق مشكلة طاقة تفوق قدرة كل اقتصاديات العالم على التعامل معها وهي الاقتصاديات التي ترنحت تحت ضربات الحرب الروسية الأوكرانية وما رافقها من أزمة نفط وغاز في أوروبا الغربية خاصة مع حلول الشتاء.
أما السندان فيتمثل بالموقف الإسرائيلي الحكومي الذي لم يستفذ غضبه ولا زال يعمل على قاعدة أنّ حربه هذه هي حرب وجودية وأنّ الحفاظ على الدولة ووجودها يفوق في أهميته ما يقوله الرأي العام العالمي ومظاهراته الصاخبة أو ما ينص عليه القانون الدولي.
في زيارته هذه يريد بلينكن إنقاذ “إسرائيل” من ذاتها، إذ لا يرى في الحكومة “الإسرائيلية” الحالية القدرة على إدارة الحرب التي يجب أن تديرها عقول استراتيجية موجودة في أجهزة الأمن والجيش لا في المستوى السياسي ولا في الحكومة الحالية.

لم تكن لقاءاته مع الحكومة “الإسرائيلية” سهلة، فحين طالبهم بممارسة عنف أكثر انضباطًا، أجابه وزير الدفاع جالنت: “إنّ العنف الممارس هو أقلّ بكثير ممّا اقترحه المستشارون العسكريون الأميركيون الذين أرسلتهم واشنطن للمساعدة وإبداء النصح”. وكذلك في لقاءاته مع الوزراء العرب الذين يفتك بهم القلق من تداعيات الحرب عليهم وخاصه بعد أن أصبحت الخطط “الإسرائيلية” معلنة باتجاه تهجير أهل غزة الى سيناء ومن أنّ الدور آتٍ ولا ريب على أهل الضفة الغربية لتهجيرهم الى الأردن بعد ذلك.
تفيد الأنباء الواردة أنّ مقترحات بلينكن لم تكن مقبولة خاضة من الوزيرين الأردني والمصري ولكن هل الرفض كافٍ؟
تبدو الخطة “الإسرائيلية” واضحة باتجاه دفع أهالي غزة من مناطق شمال ووسط القطاع الى الجنوب، والقطاع بأكمله لا تتعدى مساحته 360 كيلو متر مربع يعيش عليه مليونان و 300 ألف إنسان ويكاد يفيض بهم ومنهم، وهي من أعلى الكثافات السكانية في العالم إن لم تكن أعلاها دون منافس، وإذا انحشر هؤلاء جميعًا في جنوب القطاع فلن يكون لهم متسع من المكان للوقوف جنبًا إلى جنب مع انعدام الماء والكهرباء والخبز وكل أساسيات الحياة، حينئذ لا بد من انفجار هذا الأنبوب المضغوط فوق قدرته على الاحتمال، ونتائج انفجاره هي بالرحيل هربًا الى أي مكان، ولكن المكان الوحيد المتاح هو سيناء.
منذ أيام تحدث السياسي المصري المخضرم مصطفى الفقي على إحدى الفضائيات أنّ قبول مصر بالتهجير ممكن اذا تم إلغاء ديونها الخارجية و ضبط السلوك الأثيوبي على النيل الأزرق بما يضمن حقوق مصر المائية في نهر النيل، ومصطفى الفقي من أركان نظام حسني مبارك والنظام الحالي، لا بل من عقولة السياسية، وقد بدت تصريحاته و كان المطلوب مقابل ذلك الثمن المناسب.
لا تستطيع مصر ولاحقًا الأردن منع الهجرة عن طريق العساكر وبنادقهم، وإنّما يجب أن يتركز عملها على منع الوقائع والدوافع للتهجير، وتغيير الظروف التي قد تقهر الحائرين والمحشورين من أهل غزة وتجبرهم على غير رغبة منهم لمغادرته، واذا كان الوقوف بمواجهة هذا الخطر لا يكون بالبنادق و العساكر، فهو لا يكون أيضًا بالبيانات وتحميل المجتمع الدولي مسؤولياته، وانما بتحمل الدول وخاصة مصر والأردن كل منها مسؤولياتها بعيدًا عن الكلام الاعتذاري.