شكلت عملية طوفان الأقصى التي جرت في السابع من تشرين الأول، صدمة وجودية كبيرة لدى “الإسرائيليين”، الذين شعروا بالخطر الحقيقي يداهمهم للمرة الأولى منذ عقود، فمعارك هذه العملية دارت رحاها داخل المناطق التي يسيطر عليها الكيان الغاصب، وفي الأماكن التي تضم التجمعات اليهودية، والصدمة الأكبر كانت بسبب الفشل الاستخباراتي والفشل العسكري، في التعاطي مع هذه العملية، فقد استطاعت حركة حماس نقل المعركة إلى الأراضي التي يسيطر عليها العدو، عكس ما كان يحصل سابقاً، حيث كانت المؤسسة العسكرية “الإسرائيلية” تنقل القتال إلى الساحة المواجهة، يُضاف إلى تلك الصدمتين، الصدمة الاجتماعية، حيث اعتبرت نسبة كبيرة من “الإسرائيليين” أن القيادتين السياسية والعسكرية لم تستطيعا أن تؤمّنا لهم الأمن والاستقرار، اللذين لطالما تغنّى بهما الكيان المؤقت.
وبنتيجة كل هذا الفشل الغير مسبوق، لدى القيادتين السياسية والعسكرية، أو فشل كل المؤسسات المعنية سواء أمنياً أو عسكرياً أو اجتماعياً، وانتقاماً من ما حصل في السابع من تشرين، أعلن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الحرب المفتوحة على المقاومة الفلسطينية، ووضع بنك أهداف ذات سقف عالي، أبرزها القضاء كلياً على حركة حماس، والدخول إلى قطاع غزة بعملية عسكرية برية واسعة، وقد كان من الواضح صعوبة تحقيق تلك الأهداف لعدة أسباب، أهمها صمود المقاومين واستبسالهم في الدفاع عن أرضهم، إضافة إلى كثافة الهجمات الصاروخية، وكمية ونوعية الصواريخ التي أطلقوها اتجاه الأراضي المحتلة، إضافة إلى أن الولايات المتحدة الأميركية لم تعطِ الضوء الأخضر كي يتم تنفيذ عملية بهذا الحجم، وقد يعود ذلك إلى خوف الأميركيين من التورط في حرب إقليمية، إضافة إلى اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، ورغم أن إدارة بايدن منعت توسع الجبهات، ومدت “إسرائيل” بالسلاح والمال، ودعمت موقفها في مجلس الأمن الدولي، إلّا أنها أخذت العِبر من ما حصل في العراق وأفغانستان، وبالتالي لا تريد أن تخوض أي حرب أخرى في الشرق الأوسط، والسبب الآخر الذي منع العدو من تحقيق تلك الأهداف، هو سبب داخلي على صلة بملف الأسرى، التي زادت المطالبات والضغوطات على الحكومة لإنهائه، إضافة إلى انخفاض نسبة المؤيدين لتلك الحرب، بسبب ارتفاع أعداد القتلى في صفوف الجيش، وهذا ما بدأ يتسبب بانقسام داخلي، قد يفتت كل شيء.
وبما أن حكومة العدو منهمكة بالأهداف العسكرية وسُبل تحقيقها، فليس لديها حتى اللحظة أي تصور سياسي لقطاع غزة، لما بعد انتهاء الحرب، فالتصور السياسي مرتبط بمدى قدرتها على تنفيذ تلك الأهداف، “فإسرائيل” الغارقة في كابوس الأمن، تخلفت كثيراً عن إدارة السياسة لأنها تريد الانتقام فقط بدون أي أفق سياسي، فأصبحت الولايات المتحدة هي من يدير الشؤون السياسية واستراتيجيات الحرب، وتحاول التوفيق بين الأهداف العسكرية “الإسرائيلية” والأهداف السياسية والمصالح الأمريكية، وقد وضع الأميركيون تصوراً سياسياً لما بعد الحرب، يرتكز على سيطرة تامة ومطلقة للسلطة الفلسطينية على القطاع، دون أي تدخل “إسرائيلي”، وهذا ما يعارضه “الإسرائيليون”، الذين يريدون نقل تجربة الضفة الغربية إلى قطاع غزة، أي وجود سلطة فلسطينية، لكن بصلاحيات محدودة، حيث تستطيع قوات العدو الدخول إلى القطاع متى شاءت، وتنفيذ عمليات أمنية من مداهمات اعتقالات، وضرب الكوادر والمنظمات وفصائل المقاومة، وتدمير منازل ومؤسسات.
ومن هنا يمكننا القول أن رئيس حكومة العدو نتنياهو، انتهى من الناحية السياسية، وانتهت معه أحزاب اليمين المتطرف التي انهارت شعبيتها بشكل كبير، وقد بدت المواقف في الشارع تتغير ضد تلك الأحزاب، التي اعتبر القسم الأكبر من “الإسرائيليين” أنها مسؤولة عن كل تلك الإخفاقات، وأن زعماءها ليسوا رجال دولة، بل هم مجموعة هواة أغبياء يعملون على تدمير “الدولة”، ولن يستطيعوا قيادتها في المرحلة القادمة، وأن من سيقودها هم هؤلاء الذين تعرضوا لهجمات السابع من تشرين الأول، والذين يقودون الحرب اليوم في قطاع غزة، الذين تظاهروا ضد التعديلات الدستورية خلال الأشهر الماضية، ويديرون مؤسسات المجتمع المدني، التي أخذت دور الدولة في كل المجالات، إضافة إلى السلطة القضائية التي حاربتها الأحزاب اليمينية، والتي تقدم غطاءً قانونياً للقصف على قطاع غزة، والاعلام الذي يشترك في المجهود الحربي رامياً جانباً كل المعايير المهنية في التغطية الإعلامية.