قوميون بالمزاد

بعد أن حطَّت الحربُ الأهلية في لبنان أوزارَها، بدأ صراعٌ متقطعٌ من نوعٍ آخر في المنطقة، ما أشارَ إلى أنَّ الحربَ لم تنتهِ فعلياً، إنما أخذت أشكالاً مختلفة، فيما بقيَ المضمونُ واحدٌ وهو النيل من إرادة الأمة وإرادة شعبِها في أخطر منطقة من العالم، وفق ما أطلق الأميركيون عليها من تسمية ساهموا في إطباقِها على الواقع.
حتماً لتقوية موقف إسرائيل ولتمرير المشاريع التقسيمية والإنفصالية تحت عنوان ” الشرق الأوسط الجديد ” بعد فشل مشروع الوطن القومي المسيحي في لبنان، الذي يخجلون من ذكرِه، محاولين إبرازَ صورة مغايرة ومقتصرة على كاريزما بشير بعد انتخابِه، وكأنَّ انتخابَه جاء منفصلاً عن المخططات الإنعزالية التي ظهرت في الثلاثينيات، ونسجت في الأربعينيات علاقاتٍ سريَّة مع اليهود، وقد جاء أيضاً بمعزَل عن سلوكِه الشخصي المعروف بدمويتِه وبمنأى عن تاريخ المنظومة الفاسدة والمتعاملة التي أتت به من الداخل، كما عن المعسكر الغربي الداعم للعدو والذي فرضَه من الخارج كرئيسٍ للجمهورية بالقوة، مثلما ساندَ أنظمةً ديكتاتورية وفاسدة حول العالم.
ولقد تأثَّر مشروع إسرائيل الكُبرى في الصميم بهذه المغامرة الفاشلة في إجتياح لبنان وتنصيب بشير، قبل أن يتكشَّف ما كان سَيَليه من نشوءٍ لكيانات مذهبية وطائفية وتكفيرية سابحة في فلكِه ومشرِّعة لوجودِه.
لم تكن إذاً الحربُ في الأساس أهليةً فقط، إنما مؤامرة جيء كثيراً على ذكرِها دون توصيفِها وشرحِها، وقد دخلت فيها ومنذ بدايتها اعتباراتٌ إقليمية تعلَّقت بقضية فلسطين بحجة الوجود الفلسطيني المُسلَّح وغير المُسلَّح، حتى استُدرج العربُ إليها في إطار قوات الردع العربية، ليتمَّ سحبهم حتى تبقى سورية وحدها، بغيةَ إدخال العامل الإسرائيلي وبعده الدولي الذي ظهرَ بعد إجتياح 1982 وإنزال القوات الدولية.
ولكن عندما توقفت الحرب في العام 1990 كان لا بدّ للولايات المتحدة المخطِّطة لسياسة وجغرافية المنطقة والإقليم بعد الانتداب الأنكلو – فرنسي، أن تبادر لتوزيع الأدوار المستجدَّة على ضوء الأحداث المتعاقبة، ولا تزالُ حتى اللحظة توزِّعُ تلك الأدوار، سواء حضرت بقوة من خلال جنودِها وأسلحتِها المتطوِّرة أو من خلال ديبلوماسيتها وحلفائها وعملائها ومساعداتِها وعقوباتِها، وسواء غابت تكتيكياً ومرحلياً لسببٍ ما.
ولا حاجة بنا لذِكر ما تفعلُه في أي مجال، فأفعالُها ليست مخبأة بمعظمِها، إنما مكشوفة وتأثيرُها واضح المعالم. وليس الظهور المفاجئ للحركات التكفيرية والانفصالية في كل الأرجاء والحرب الكونية على الشام غير ناتج من نتائجها.
فكان من البديهي وفي سياق ما تفعله أميركا ومعها إسرائيل، طفلتُها المُدلَّلة وحليفتُها الإستراتيجية، أن تهتمَّ ولو على الهامش بوضعية الحزب السوري القومي الإجتماعي كحزبٍ عقائدي ونظامي ومقاتل وعابر للطوائف والمناطق في كنفِ نظامٍ طائفي يغلقُ أبواب الطوائف والمناطق على بعضِها، وهذا من خلال إختراق الحزب من داخلِه، بعد أن عجزَ كلُّ الذين استهدفوه وكانوا في صفِّ أميركا وإسرائيل والغرب عن إنهائه من خارجِه.
وما كان عليهم في هذا الحال وبعد اغتيال زعيمِه ودكّ أعضائه في السجون واضطهادهم ونَفيِهم، غير أن تستميلَ مسؤوليه وتمنحُهم إما مباشرةً أم من خلال السلطات المحلية أو جِهاتٍ حليفةٍ لها، إمتيازات سياسية ومالية.
وقد أدَّى ذلك – بعد انقضاء مرحلة الثمانينيات التي عرفت العمليات الإستشهادية ونظرية الأجساد المتفجرة التي أطلقها عميدُ الدفاع في الحزب وقتها، وساهمت في تحرير الأرض – إلى تقويضِه وإضعافِه ومنعِه من القيام بأي عملٍ قد يغيِّر في مجرى الأحداث أو كما يسمِّيه البعض في مجرى التاريخ.
ومن هنا شاهدنا كيف تمَّت بعض عمليات الإغتيال بداخلِه والتي طالت عدداً من الوجوه البارزة، تلاها إستبعادٌ لعددٍ من العسكريين المخضرمين في المجال المقاوم، بعد استشهاد أغلبية الضباط والمقاتلين خلال الحرب والذين فاق عددهم الألف وخمسمئة، أعقبَها جهودٌ إستخباراتية على مدى عشرين عاماً، تناوب عليها الثنائي حردان – كنعان لإنهاء دور عدد إضافي من الوجوه السياسية والحزبية البارزة.
حتى وصلْنا في نهاية مطافِ عقودٍ ثلاثة إلى وضعٍ مزرٍ تحلَّلت فيه المؤسسات الحزبية، بحيث فقدَ القوميون الثقةَ بكلّ ما تعلَّق بتلك المؤسسات ولم يعودوا يشاركوا في أي جهدٍ أو نشاطٍ أو حتى تمويل بالنسبة للمغتربين.
وعندما استدركَ بعضُ المنخرطين في هذا الحزب والمتمرِّسين في مختلف شؤونِه وشجونِه، أنه لا بدَّ من قلب الطاولة على الماسكين بخناقِه، والخارجين عن دستورِه ونظامِه وحتى مناقبِه في كيفية رسم سياساتِه ووضع أولوياتِه والتعامل مع أعضائه، ولو لجأوا إلى أساليب غير واضحة تماماً لكن مُلزِمة ومُعتَمَدة لدى هؤلاء المتربِّصين بالقيادة، انبرى المسيئون له والمعروفون بالاسم لا بل بالصفات الشخصية والسلوك الشخصي غير المشرِّف، لإقامة دعاوى قضائية في قضاء لا صلاحية له، وتحالفات استعراضية مع وجوهٍ لم تعُدْ تمثِّل شعبياً، ولقاءات مُركَّبة ومُفبركة، للإيحاء بوجود حزبٍ لا وجود له وبوجود أعداد من القوميين المُجمَّعين من هنا وهناك، والذين لم نتعَّرف على وجوه سوادِهم الأعظم قبل الآن.
فلقد نشروا وعلى سبيل المثال لا الحصر، على صفحاتٍ خاصة بهم في وسائل التواصل، خبرَ انتماء ألف عضوٍ جديد أتمّوا حضور الحلقات الإذاعية، فيما نعرف أنه لا يوجد مذيعون لديهم، لعدم اهتمامهم بالشأن العقائدي، بحيث لم يشترك أيُّ مسؤول حزبي طيلة الحقبة التي تَوَلّوا الحزب فيها بأي مناظرة فكرية عن سعاده أو عن أي شأن فكري.
لا بل استُبعِد المفكرون والمثقفون والمتعلّمون عن الحزب وباتوا في المهجر، بحيث حضرَ الأمّيون مكانهم وبقوة.
وإذا نظرنا إلى صورة المنتمين، نلاحظُ أن العددَ بالكاد يتجاوز نصفَ ما ادَّعوه، والغريب أن مئتين منهم بأعمار متقدِّمة!!
ونرى في شريطٍ مصوَّر آخر لمسيرةٍ بمناسبة افتتاح مكتب جديد لمنفذية طرطوس، أن مقدِّمة المسيرة الحاوية على نصف عدد السائرين، تضمُّ كشافاً مدفوعاً أجره، تابعاً لكنيسة ضهر صفرا.
وأختمُ في مشهدٍ ثالثٍ عن روايتِهم لإحدى أنجح العمليات خلال الإجتياح، في ذكرى إستشهاد عاطف الدنف الذي تركوه في خطٍ متقدِّم دون أن يبلغّوه عن الهجوم المضاد، والتي قادها مع ثلاثة رفقاء عند شركة الكهرباء في عاليه، آتين من طريق الرويسات التي لم يكن الغازي قد اعتمدها بعد في تنقلاتِه، ومترجّلين كلٌ من أبواب السيارة الأربعة، بناءً على تخطيطٍ مُسبَّق، عندما أُخِذ الرأي عن كيفية استهداف عددٍ وافٍ من الإسرائيليين.
فلم يجد مخططو الحزب غير الآتين على شكلِ سيَّاح في الباصات، ومعظمهم من الإحتياطيين، بينما اقتصر عددُ مستقلّي المركبات الحربية على واحد أو إثنين باستثناء الملالات.
فلقد أفادونا في روايتِهم عن ستة قتلى بينما سقط لهم ستة عشر، متناسين الواحد في خانة العشرات، أم جاهلين له، إضافةً إلى سبعة وثلاثين جريحاً من الباص والملالة التي كانت بجانبِه، وفق ما أوردت الصحف اللبنانية.
ثمَّ يأتون على ذكري لكن على صفحاتِ تواصلِهم، ويعلّقون لي صوراً لكن في الساحل السوري، بعد أن قمتُ بكلّ ما يلزم من ناحيتي لحماية الحزب من أي ردّ فعل، فيتعمّدون إهمالي طيلة أربعين عاماً وعدم طرح ملفي لحلّ تلك القضية الوحيدة، عندما كان الحلُّ ممكناً، والتي بقيت عالقة دون سواها بالحرب الأهلية، ما يدلُّ على سوء النية في إستبعادي ونفيي وإزعاجي طيلة عشر سنوات، تكريساً منهم لامتيازاتهم الشخصية المذكورة أعلاه، ما دفعَ بأعداد غفيرة من المواطنين، للإستغراب والإستنكار والمطالبة بحلّ عادل وفق الدستور المساوي بين جميع اللبنانيين، إلى أن ولىّ الزمن وخضعَ الملف لاعتبارات إنتخابية وطائفية ومزاجيَّة أدّت لصدور حكم بالإعدام، فيما حضرت ثلَّةٌ منهم في اليوم الأخير أمام العدلية على مثابة رفع العتب شكلياً.
لا بل حوَّل خصومُ الحزب والذين تحالفوا سياسياً وانتخابياً معهم تلك القضية إلى قضية شخصية، ولم يتجرأ أحدٌ على طرح الموضوع كما هو على سجيَّتِه إلاّ مؤخراً في ذكرى عملية الويمبي من خلال قيادة الحزب الجديدة أو المتجددة، التي منحتني وساماً تُشكر عليه، والتي قد تخطئ في عملِها كأي قيادة تتعاطى الشأن العام، إنما ثبُتَ لي تحلِّيها بالشفافية وصدق الإنتماء.
ولا يعتقدنَّ أحدٌ بأنّ لديّ مصلحة معها أو غاية من هذا الكلام، بل يعلمون تمام العلم بأنني لم أتقاضَ ولا في أي مرحلةٍ مخصصاً من الحزب، وقد اعتبرتُ إنتمائي منذ ما يقاربُ نصفَ القرن في سبيل العطاء وليس الأخذ، فكان المعيارُ الوحيد الثابت بالنسبةِ لي متموضعاً بالمصلحة القومية العُليا.