نظرة أولية في كتاب “إسرائيل إلى نهايتها”

يضعنا كتاب الأمين سركيس أبو زيد “إسرائيل إلى نهايتها” (دار أبعاد للطباعة والنشر، بيروت 2021) أمام مشهدين قد يبدوان متناقضين، لكنهما في الواقع مترابطان إلى أبعد الحدود.

المشهد الأول ترسمه مجموعة متنوعة من الإحصاءات والدراسات والمقالات والتحليلات المأخوذة عن مصادر إسرائيلية رسمية وإعلامية، تناولها المؤلف في إطارها الأوسع، ونشرها للمرة الأولى سنة 2008، ويعيد إصدارها الآن لراهنيتها الأكيدة.

المشهد الثاني يتمثل بهجمة “تطبيعية” ترتكبها دول عربية تسعى إلى إقامة علاقات خاصة مع الدولة الصهيونية، تصل في بعض الأحيان إلى مستوى “التحالف الاستراتيجي”. ومع أن الكتاب لا يتطرق إلى هذه الناحية، إلا أنها تخيّم بظلالها على الفكرة المحورية: “إسرائيل إلى نهاية”.

وللوهلة الأولى، تبدو الصورة التي نخرج بها من معاينة المشهد الأول وكأنها النقيض الحاد لما تحققه إسرائيل من “إنجازات” في تعاملها مع تلك الدول العربية. إذ كيف يمكن أن يتناغم منطق “نهاية إسرائيل”، الذي يؤكده الكتاب، مع وقائع التعاون والتنسيق والتحالف التي يحظى بها الكيان الصهيوني سواء من الغرب الأميركي ـ الأوروبي ـ الأطلسي أو من أتباعه المخلصين في عالم عربي مشرذم حتى النخاع؟

يستعرض المؤلف شهادات أدلى بها سياسيون ومفكرون إسرائيليون خلال السنوات الماضية، وبالتحديد بعد حرب تموز 2006 حين فشلت الآلة العسكرية الصهيونية في تحقيق أي من أهدافها المعلنة. وتكشف الشهادات عمق الأزمة الوجودية التي يواجهها الإسرائيليون في خضم متغيرات عالمية وإقليمية تطال البنى السكانية والفكرية والاقتصادية والأمنية، وتثير تساؤلات حول “مفهوم الدولة المحكومة بالانتصار دائماً”!

كثيرة هي المسائل التي تعرّي أزمة “المجتمع الصهيوني”، في الديموغرافيا والأمن والاقتصاد والفكر والتفاوت الاجتماعي والتناقضات الطبقية… وكلها تصبّ في اتجاه “التدمير الذاتي” حسب تعبير الأمين سركيس. غير أن “الأعطاب القاتلة” هي تلك التي أصابت “عناصر القوة الإسرائيلية”. ونحن نعتقد بأن الهجمة التطبيعية التي يرعاها ويشجعها الغرب الأميركي ـ الأوروبي لها هدف أساسي من بين أهداف عدة: إخراج الكيان الصهيوني من مساره الحتمي نحو النهاية، واللجوء إلى الخارج هرباً من إشكالات الداخل، وتوظيف العلاقات الديبلوماسية لبعث الحياة مجدداً في جسد “مجتمع” ينخره الفساد والإحباط… وغير ذلك.

من المفيد الآن أن نعرض للعنصر المركزي الذي قلب المعادلة، وقرّب الكيان الصهيوني من نهايته الحتمية. وقد سبق لي أن كتبت مقالاً في هذا الشأن (“العقيدة العسكرية الصهيونية”، 23 تموز 2014) تضمّن الأفكار التالية:

نبدأ باستعراض العناصر الأساسية في العقيدة العسكرية الصهيونية منذ قيام الدولة العبرية على التراب الفلسطيني. القاعدة الأولى في التخطيط القتالي الإسرائيلي هي أن تكون القوات الصهيونية متفوقة على كل القوى المحيطة بها، سواء كانت هذه القوى مجتمعة أو متفرقة، من ضمن النظرية الإسرائيلية في “التفوق النوعي”. وتحت هذا السقف العالي تندرج العناصر التكتيكية التالية التي نلحظها في كل الحروب التي خاضها الصهاينة منذ العام 1948:

أ ــ أن تقرر إسرائيل توقيت بدء المعارك (حرب تشرين سنة 1973 استثناء يؤكد القاعدة، وسنوضحها لاحقاً).

ب ــ أن تقرر إسرائيل أيضاً توقيت وقف المعارك.

ج ــ أن تكون المواجهات دائماً في “أرض العدو”.

د ــ أن تؤمن حماية مطلقة للجبهة الداخلية الإسرائيلية.

هـ ــ أن توقع خسائر فادحة بالقوات المعادية مقابل أقل الخسائر في صفوفها هي.

و ــ إرتكاب المجازر بحق المدنيين في الجهة المقابلة وتدمير البنى التحتية بهدف خلق هوة بين القوات المقاتلة والبيئة الشعبية الحاضنة.

ز ــ ترسيخ نظرية الجندي الصهيوني الذي لا يُقهر مقابل المقاتل الفلسطيني أو اللبناني أو الجندي السوري أو العربي الذي “يفر من ساحة المعركة”!!

ح ــ فرض شروطها الخاصة في أية هدنة أو اتفاق لوقف إطلاق النار سواء عبر الأمم المتحدة أو الوسطاء الدوليين الآخرين.

حرب تشرين سنة 1973 كانت الاستثناء، كما أشرنا أعلاه، في مسألة وحيدة هي توقيت شن المعارك. لكن إسرائيل سرعان ما استعادت المبادرة (لأسباب ليس مجال البحث فيها الآن) لتطبق كل العناصر الأخرى المذكورة آنفاً. في أيار سنة 2000 ظهرت بوادر خلخلة في العقيدة القتالية الصهيونية، إذ للمرة الأولى تضطر إسرائيل للانسحاب من أراض احتلتها من دون أن يُقدّم الطرف الآخر أي تنازل سياسي أو أمني، بل بفعل المقاومة التي استندت إلى بيئة حاضنة مستعدة للعطاء غير المحدود. ومع ذلك لم تكن تلك العقيدة قد وُضعت على المحك… الذي جاء في تموز سنة 2006.

في تلك المواجهة، “بدأت” إسرائيل العمليات العسكرية رداً على أسر المقاومة جنديين صهيونيين، ما أفقدها عملياً عنصر المبادرة والمباغتة. وهي لم تستطع وقف المعارك الطاحنة بعد مضي ثلاثة وثلاثين يوماً إلا بـ “التوافق” مع الطرف الآخر. صحيح أن المعارك البرية الشرسة كانت على الأرض اللبنانية، لكن الصحيح أيضاً أن كافة “المدن الإسرائيلية” باتت تحت مرمى صواريخ المقاومة. وذكرت الاحصاءات الصهيونية يومها أن أكثر من نصف عدد سكان الدولة العبرية نزحوا بشكل أو بآخر من جراء ضربات المقاومة.

وللمرة الأولى في تاريخ الدولة الصهيونية، لم تستطع الآلة العسكرية الإسرائيلية أن تؤمن “الحماية” للجبهة الداخلية على الصعيدين البشري والاقتصادي… في وقت كان الجنود أنفسهم يدفعون ثمناً باهظاً في المواجهة المباشرة مع رجال المقاومة الذين أثبتوا قدرات قتالة وتكتيكية واستراتيجية في مقابل “الجندي الذي لا يُقهر”! وعندما وصلت المغامرة الإسرائيلية إلى الحائط المسدود، كان من الطبيعي أن لا تأتي صيغ التهدئة وفق ما كان يخطط له القادة الصهاينة. فكان ذلك المسمار الأخير في نعش العقلية القتالية التي خدمت المشروع الصهيوني بإخلاص على مدى أكثر من سبعين عاماً…

يُقال عن الدولة الصهيونية إنها عبارة عن قوات مسلحة أوجدوا لها شعباً. وحالما تُصاب المؤسسة العسكرية بخلل سواء في قدرتها على الحماية أو الردع أو الانتصار، فلسوف يفقد الناس الضمانة الأمنية المنشودة وتتسلل الشكوك إلى نفوسهم. ونظراً إلى أن طبيعة الكيان الصهيوني غير طبيعية تماماً، فالمصير الذي ينتظر الإسرائيليين لن يختلف عن مصير الفرنجة (مفردة الصليبيين خطأ): احتلال دام مائتي سنة لم يبق من تأثيراته سوى بعض القلاع التي غيّرت أسماءها، ومفردات إفرنجية استوعبتها لغة الضاد، وبؤر وراثية سلالية متفرقة!

في ختام الكتاب، يطرح الأمين سركيس التساؤل التالي: “هل يمكن أن تنجح (إسرائيل) في إعادة ضخ مبادئ بروتوكولات حكمائها وأيديولوجيتها التاريخية ـ التي قام على أساسها بنيان دولة “إسرائيل الكبرى” ـ في مجتمع فقد وحدته الفكرية والعقائدية وبات على شفير التفتت؟”

المقتطفات التي يضمها الكتاب تؤكد أن الدولة الصهيونية لن تنجح. لكن هذا وحده لا يكفي. فلا شك في أن المنظمة الصهيونية ستتحرك لوقف الانهيار وعكس المسار المؤدي إلى “النهاية”. وهنا يأتي دور الخطة النظامية المعاكسة التي تحدث عنها الزعيم مراراً وتكراراً. 

أحمد أصفهاني