شرق بلا دول

شرق بلا دول

تتضافر مجموعة من العوامل ضد أشكال الدولة المشرقية التي نجمت عن اتفاقية سايكس بيكو، ولم تعد هذه الأشكال المترهلة المترنحة بعيدة عن استهدافات التمزيق في سياق ما يعرف بالشرق الأوسط الكبير، مركز صهيوني ومحيط عربي على شكل كانتونات أو فيدرالية كانتونات متصهينة.
ومن ذلك، ما نشاهده من رايات وترميزات جهوية وطائفية من شمال سوريا إلى جنوبها، وما نسمعه من دعوات لأشكال لا مركزية برسم التحول إلى كانتونات سياسية، وليست مشاريع مثل الابراهيمية أو تداعيات دستور بريمر (نوح فيلدمان) في العراق بعيدة عن ذلك، والأخطر من ذلك إعادة إنتاج (نموذج) دولة المدينة بديلا للدولة القومية الحديثة.
كانت المدينة (بوليس) في الاغريقية، وقرت أو قرية في الكنعانية، على غرار قرطاجة (قرت تاجه) وقير مؤاب بالكنعانية، هي الشكل السياسي الأول في التاريخ، وكانت الساحة أو الميدان أو الأغوار الاغريقية (الحاكورة) هي مركز هذا الشكل، كما كانت المواطنة لا تشمل (الغرباء والنساء والعبيد) أساس ما عرف بـ دولة – المدنية.
وكان من أشهر نماذج هذا الشكل السياسي، المدن الاغريقية مثل اثينا واسبارطة والمدن السومرية والكلدانية والاشورية والكنعانية والآرامية مثل دمشق واوغاريت.. الخ، وقد تحولت هذه المدن إلى دول محلية، ثم إلى مراكز إمبراطورية بسبب طرق التجارة، وذلك قبل أن تدخل طور الأفول مع تحول هذه الطرق، في دورة تشبه الكائن الحي، على حد ما ذهب إليه أفلاطون وابن خلدون وفيكو..
كذلك، ورغم انبثاق الدولة القومية في عصر الثورة الصناعية البرجوازية، في ألوروبا وهي التي عرفت بدولة وستفاليا (نسبة إلى اتفاقية 1648 التي أنهت الامبراطورية الرومانية الجرمانية) إلا أن دولة المدينة استمرت في أماكن أوروبية عديدة، سواء بصورة مستقلة أو على شكل يشبه الحكم الذاتي داخل دولة ما، أو على شكل ديني..
ومن نماذج الأولى جنوى والبندقية التي اشتهرت في عهد الوزير ميكافيللي، وانتهت مع حملة نابليون، ومن نماذج الثانية، المدن التي أخذت شكلا كوزموبوليتيا تحت سيطرة التجار الأجانب والقناصل، مثل الاسكندرية وسالونيك وسميرانا (ازمير).
ومن الأزمنة الحديثة: موناكو، وهونغ كونغ وسنغافورة، ومن نماذج الثالثة، دولة الفاتيكان وفرسان مالطة.
وكان ملاحظا في كل هذه المدن التنافس الذي وصل حد المذابح المتبادلة بين الجاليات نفسها وخاصة بين اليونان والأرمن من جهة وبين البيوتات المالية اليهودية من جهة ثانية.
اليوم، وبعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار المنظومة الاشتراكية، ثمة سيناريوهات وتصورات في مراكز المتروبولات الامبريالية بأن الدولة في مناطق شاسعة من الجنوب والشرق، مشروع زائد عن الحاجة ومفهوم بائد، وأن من الأفضل تحويل هذه المناطق وخاصة الشرق الأوسط إلى مناطق مدارة تحال إلى شركات ومؤسسات كبرى تنطلق من المتروبولات.
ويشار هنا إلى كتابات الأمريكي، الفين توفلر (تحول السلطة) والفرنسي الان تورين (المجتمع ما بعد الصناعي) والأمريكي برتران بادي (انقلاب العالم) التي أشارت جميعها إلى أن عصر ما بعد الثورة الصناعية يشي أيضا بنهاية المفهوم التقليدي للدولة.
وإذ يجادلون في الأشكال المتوقعة للاعبين الجدد في الشمال، فإن الشرق والجنوب يغيبان كمحيط مهمش عليه أن يتكيف لحاجات التحول الكبير في المتروبولات المهمة وأذرعها المختلفة، الناعمة والخشنة على حد سواء، وفي كل الحقول المستهدفة، فالبنك وصندوق النقد الدوليين والمؤسسات المالية الامبريالية ذات الصلة تفرض إملاءاتها في (هارموني) عالمية تجري في الوقت نفسه تقريبا، من عناوينها رفع الدعم الحكومي عن السلع والخدمات الأساسية وزيادة الضرائب غير المباشرة والجماعات الليبرالية العاملة باسم المجتمع المدني وغيره تتولى صناعة البديل السياسي (للمجتمع السياسي) ووراثته.
وكذلك قوى الضغط والتدخل العسكري المباشر أو عبر الجماعات الأصولية المتطرفة تتولى تحطيم الجيوش والأذرع الأخرى للدول المستهدفة.
وبالمحصلة نحن أمام سيناريو لإنهاء (الدولة) السابقة واستبدالها بأشكال من (الدولة – المدينة)، ومنها:

نموذج الدولة الميناء

نموذج الكانتون

نموذج البانتوستان

نموذج (المحطة) شأن (المدن الدولة) التي قامت على طريق شركة الهند الشرقية أو في خدمتها مثل سنغافورة وهونغ كونغ والبهرة.
وفيما يخص الشرق الأوسط تحديدا، يشار إلى تصورات شمعون بيريز ومؤسسة راند الأمريكية، التي تتحدث عن كيانات برسم الفك والتركيب باسم اللامركزية وفدرالية المكونات المذهبية ومجمل توصيات ومخرجات ونصائح البنك وصندوق النقد الدوليين.
ولم تعد الدولة – الكانتون أو البانتوستان أو المدينة البديل للدول الحالية، مشروعا مقتصرا على المجالات الحيوية للعدو الصهيوني، بل صار النموذج المطلوب وفق السيناريوهات الأمريكية – الصهيونية لمجمل المنطقة.
فنحن إزاء عملية تفكيك وتركيب أمريكية، صهيونية لبناء منظومة متكاملة من دولة المدينة أو البانتوستان.
وهو ما يعني أننا إزاء شكل جديد من شركة الهند الشرقية وحرب الطرق والموانئ، هو الشكل الذي تظهر فيه تل أبيب والبيوتات المالية البريطانية والأمريكية واليهودية جنبا إلى جنب مع البيوتات النفطية.