بين ” عمامة ” القومية و”عباءة ” الطائفية

بين ” عمامة ” القومية و”عباءة ” الطائفية

مما لا شكَّ فيه، بأن اليهود قد نجحوا – الى حدٍّ بعيد – في إذكاء نظرية الخوف من الآخر، على قاعدة الشك وإمعان التفرقة، لاسيما عند بعض الفئات التي اصطُلح على تسميتها بالأقليات . وصولاً الى استبدال حقيقة ثابتةِ التخوّف من ” دولتهم” البدعة، التي ما قامت ولا استدامت إلاّ على ركائز عنصريةٍ إيديولوجية ٍ إثنيةٍ ميثولوجيةٍ مُجتَمِعة .

ولعلَّ المقاربة الآنيّةَ، جاءت إسقاطاً على حدثين هامين، لهما في الدلالةِ صلةٌ وفي الوقائع صولاتٌ ومواقف .. ونتائج .
وعليهما في الأسباب والتحليل والتعليل شرحٌ يطول، علّنا في هذا الإيجاز ، أن نوضح بعضاً من هذه كلها .

بدايةً، كركنٍ أساس في إنعاش ذاكرتنا الجمعية، وددنا أن نستذكر معاً بأن “الوعد” الباطل (بلفور) الذي منحته الحكومة الملكية البريطانية لليهود، ركّز على الجملة الشهيرة “.. بإنشاء وطنٍ قوميٍ لليهود في فلسطين..” ومنذ تلك الحقبة، حتى قيام ما يُسمّى ب “إسرائيل” دأب اليهود على تبطين المعنى الصريح في النص، وعملوا على إبراز الصهيونية كواجهةٍ سياسيةٍ لآليات تنفيذ هذا القرار ، عبر تضليل الرأي العام ، بأن ثمة فارق بين أهداف اليهود ب ” أرض الميعاد” وبين الصهيونية كما أسلفنا .

وها نحن نرى ونلمس، وبعد أن تمدد هذا الأخطبوط – دائم الحركة – عالمياً وفي داخل الأرض المحتلة، يكشفُ علَناً عمّا تبقّى من وجهه المقيت، فيقرُّ ” الكنيست الاسرائيلي ” العام 2018 قانون القومية العنصري كقانونٍ أساس يعرّفُ “إسرائيل” ” دولةً قوميةً للشعب اليهودي” ويكرّسُ يهودية الدولة بوصفها “القيمة العُليا والمرجعية القانونية والمعنوية الحاسمة في إسرائيل” دون أي اعتبار للفئات الأُخرى.
وبذلك يعلن عن رغائبه الحقيقية، التي لم تكُ مبهمةً عندنا ولا حتى ضبابيةً على الإطلاق، والتي حذّر منها سعاده العام 1926 وما تلاها على مدى عقود، تفنيداً وتوصيفاً وفعلاً مباشراً تكلل بالشهادة منذ العام 1936، ولم يزل حتى يومنا هذا.

وعليه، وبالعودة الى ما تقدّم، لجهة الحدثين المنوّه بهما أعلاه، نستعرض الأول عن جزءٍ عزيزٍ من أرضنا المحتلة، ألا أنه الجولان . فمنذ احتلاله العام 1973، حيث كان هدفاً حيوياً واستراتيجياً بالغ الأهمية ل” إسرائيل “، فتلك الهضبة المرتفعة، تقع على مقربةٍ من بحيرة طبريا وتشرف عليها، لاسيما عاصمة الكيان الشامي دمشق. ففي العُمق تعتبر قريبةٌ منها ، لا بل إنها تُشكّل الهم الدائم والخطر الداهم على مستوى الأمن القومي لكل الوطن السوري .

لذا، بادرت “إسرائيل” على وجه السرعة، لتعلن في 14 كانون الأول 1981 ضمّها رسميّاً لهضبة الجولان بحجة ” وجود أبعاد تاريخية واستراتيجية” حيث صدر على أثره القرار الأممي رقم 497 الذي نصّ ” أن القرار الإسرائيلي بفرض قوانينها وولايتها القضائية وإدارتها في مرتفعات الجولان السوريّة المُحتلة باطلٌ ولاغٍ وليس له أي أثرٍ قانونيٌ دولي” مع الإشارة بأن تعداد أبناء الأرض السوريين اليوم لا يشكل أكثر من 50% من مجمل القاطنين، فالنسبة المتبقية هم من اليهود الذي بنى لهم العدو المستوطنات بعد أن استقدمهم من مختلف أصقاع العالم .

وفي 25 آذار 2019 أصدر الرئيس الاميركي دونالد ترامب مرسوماً تعترف الولايات المتحدة الاميركية بموجبه ” أن هضبة الجولان جزءٌ من دولة إسرائيل “.
ولا يغيبنَّ عن أذهاننا تلك المواجهات البطولية التي خاضها شعبنا في الجولان ضد الاحتلال على مدى عقود، حتى الحدث الأخير ، حين قررت حكومة العدو وضع توربيناتٍ هوائية في بعض أراضي الجولان المملوكة و المأهولة من قبل المزارعين، مصادرةً آلاف الأمتار، على الرغم من وجود أراضٍ غير مأهولةٍ في مواقع متعددة ، وهنا كان واضحاً بأن المستهدف كان الإنسان السوري، كي تُطبّق عليه لاحقاً سياسة ” أحرجوه فأخرجوه” لكن إلى أين ؟ وهو سؤال وجيه، سنجيب عليه في مايلي من إيجازنا هذا.
جاءت ردّةُ الفعل صارخةً مدوّية، وفي مواجهةٍ مفتوحة، حتى أذعن العدو وأوقف العمل بالمشروع ” مؤقتا” بغية التوصّل لتسويةٍ مع ” المرجعيات” ، وفي سبيل ذلك عُبّئت الساحاتُ بالمتدينين ورفعت الرايات الدينية ( أمرْ لهُ ما لهُ وعليه ما عليه ) .

أما الحدث الثاني، فكان في السويداء، التي كانت على محك الأحداث، فمنذ بدء العدوان على الشام والمؤامرة الدولية التي حيكت ضدها، بعقلٍ وتخطيطٍ يهودي، وتنفيذٍ تعددت أوجه القائمين بل المكلفين به، من مرتزقةٍ داخليين وعربٍ وأجانب، الذين انخرطوا في القتال ضد الجيش الشامي وقوى المقاومة، فضلاً عن المحتَلّين الأمريكي والتركي، ناهيك عن التدخّل الروسي والإيراني ، في هذا الصراع ، ومحاولة احتواء الحالة الشاميةً، لكن يسجّل لهؤلاء تقديمهم التضحيات الجسام مادياً وبشرياً، وما زاد الطين بِلّة ظهور جماعاتٍ مطلع الأزمة وبدء الحرب أقدمت على رفع الشعارات والأعلام الدينية، مطالبةً بإسقاط النظام ، لكن ، وبعد عقدٍ ونيفٍ من الزمن وبعد فشل المشروع التقسيمي المُدمّر، جرّاء صمود الدولة المركزية، والحلفاء الذين قدّموا جميعاً آلاف الشهداء والجرحى والمعوّقين .

مؤخراً، وتحت وطأة الحصار الجائر والاستهداف المبرمج ، عبر قانون قيصر وسواه من أساليب التهديم المعنوي والاقتصادي، عادت تلك المجموعات للضهور مجددا , بحججٍ مطلبية ما لبثت أن تحولت سياسيةً ، أيضاً تحمل راياتٍ دينيةٍ واضحةً، مطالبة بإسقاط النظام .

في الخلاصة يتبيّن التالي :
أن الحدث الأول حصل في أرضٍ شاميةٍ سوريةٍ محتلة، يهدف العدو لتفريغها من سكانها الأصليين، مستخدماً شتى الذرائع والطرائق، والتي باتت واضحةً ولسوف تزداد في المدى القريب، بغية ترحيل من تبقّى من أصحاب الأرض والهوية الى الداخل الشامي. أما الحدث الثاني، فهو في أرضٍ حرةٍ تحت سيادة الدولة الوطنية، يحاول المتآمرون، من خلال تحركاتهم المشبوهة، إعلان انفصالهم عنها عبر شيطنتها وإقناع البيئة الوجودية فيها بجدوى الدويلة الدينية على حساب الوطنية،
والمحرّكُ واحد والمستفيد واحد .

وعودٌ على بدء، فإن رفع الرايات الدينية والشعارات، في محاولة شدّ العصب من جهة والتمايز عن باقي مكونات الوطن من جهةٍ أُخرى، وإلباس هذه الفئة ” عباءة” الطائفية فلسوف تفشل، فثمة جمهرةٌ من أبناء تلك الأرض ، من ” عمائم” الوطنية والقومية ، تتصدى بدورها لهذا المشروع ، غير مخدوعة وتعلن بأن ” العقل ” السوري ، معتنق التوحيد والوحدة ، وسيف الوطن ودرعه ، لهو أعظم بكثيرٍ من أن يستحيل أداةً في أيدي اليهود ، الطامحين لإقامة دويلاتٍ دينيةٍ هجينةٍ حول ” الدولة اليهودية المسخ” ، لا إرغاماً ولا طواعيةً ، ذاك ” أن جميع المسائل الحقوقية والسياسية التي لها علاقةٌ بأرضٍ سوريّةٍ أو جماعةٍ سوريةٍ ، هي أجزاءٌ من قضيةٍ واحدةٍ غير قابلةٍ التجزئة أو الاختلاط بشؤونٍ خارجيةٍ يمكن أن تُلغي فكرة وحدة المصالح السوريّة ووحدة الإرادة السوريّة” .

في 2023/9/3.

الرفيق مكرم العريضي
وكيل عميد الإذاعة