الندوة الثقافية المركزية في دورها المتجدّد

في 25 نيسان سنة 1948، أصدر سعاده قانون الندوة الثقافية المركزية “تثبيتاً للندوة الثقافية التي أنشئت سنة 1937”. وجاء القانون في مادة وحيدة:

“غاية الندوة الثقافية: التعمق في درس التعاليم القومية الاجتماعية الـمتضمنـة في الـمبـادىء والشـروح التعليميـة، والتمكـن منها وإيضاح الـمبادىء والقيـم والقواعـد القوميـة الاجتماعية، والقضية الناشئة عنها والنظرة إلى الـحياة والكون والفن الـحاصلة منها، والـمسائل والقضايا التي تعالـجها وموقف الـحركة القومية الاجتماعية منها، وبعث التراث السوري الفكري، والإنتاج الدراسي والأدبي والفني على هذه الـخطط، إحياءً للقيم الـجديدة وتـحقيقاً للثقافة السورية القومية الاجتماعية الـمشتملة عليها”.

وجاء بعد فقرة “غاية الندوة” نص القانون الداخلي الذي احتوى على عشرين مادة، تتعلق بالعضوية والهيئة الإدارية. وكان سعاده قد أعاد تفعيل أعمال الندوة بعد عودته إلى الوطن في آذار سنة 1947. وعلى الرغم من صدور مذكرة توقيف بحقه آنذاك، وما رافقها من ملاحقات ومداهمات، فقد حرص على عقد حلقات فكرية شارك فيها عدد من مفكري الحزب ومثقفيه. وقد وصلت إلينا مخطوطة حلقة فكرية بتاريخ 17 نيسان 1947 سجلها ناموس الحلقة المساعد بخط يده، وعثر عليها بين أوراق الشاعر الراحل خليل الحاوي. ونُشرت الحلقة في مجلة “البناء ـ صباح الخير” العدد 775 تاريخ 2 آذار 1991.

والواقع أن جذور فكرة قيام ندوة ثقافية في الحزب السوري القومي الاجتماعي تعود إلى سنة 1937 عندما أنشأ الزعيم “حلقة سرية سماها “حلقة الأربعاء”… لأن أعضاءها كانوا يعقدون الاجتماعات كل نهار أربعاء من كل أسبوع”.(1) وضمّت الحلقة عدداً من الأعضاء ذوي الثقافة العالية وأصحاب تجارة أو صناعة. ومن الذين شاركوا فيها الدكتور جورج صليبي والمحامي محسن سليم والمهندس رجا خولي والمهندس بهيج المقدسي والأستاذ ناجي عيتاني والصناعي أنيس قساطلي.

وأتاحت اجتماعات هذه الحلقة، إضافة إلى ما تناولته من المواضيع الثقافية والاقتصادية، مجالاً لعدد من الأعضاء كي يقفوا على شؤون الحزب طالما أن ظروفهم العملية والخاصة لا تتيح لهم حضور الاجتماعات الحزبية الدورية في متحداتهم الاجتماعية. وكان الزعيم يشارك في أعمال الحلقة، لتوجيه دفة الحوار من جهة، وللبحث مع الحضور في مشاريع اقتصادية يعود ريعها للحزب الفتّي من جهة أخرى. وليس بين أيدينا معلومات كثيرة عن هذه الحلقة، وعن عمرها وإنجازاتها.

ثم أنشأ سعاده في مطلع العام 1937، من دون أن يصدر مرسوماً بذلك، ندوة خاصة للثقافة والمثقفين سماها “الندوة الثقافية” لتكون آكاديمية للأبحاث الفلسفية والتاريخية والاقتصادية، وعيّن زكي النقاش رئيساً لها وفؤاد سليمان ناموساً. وقد صنّف أعضاءها إلى صنفين: مشتركين ومستمعين. ومن المشتركين، إلى جانب رئيسها وناموسها، نعمة ثابت ومأمون أياس ويوسف صوراتي ومنير الحسيني ومنير تقي الدين وعبدالله قبرصي وفخري معلوف وفيكتور أسعد وعجاج المهتار وناجي عيتاني. ومن المستمعين جبران جريج وجورج عبد المسيح وأنيس فاخوري وغيرهم. ويتذكر عبدالله قبرصي أربع محاضرات نوقشت في تلك الفترة: دراسة فيكتور أسعد عن مكيافيللي، ودراسة مأمون أياس عن الشاعر الروسي بوشكين، ودراسة قبرصي عن اتجاهات الأدب العربي الحديث، وبحث في تاريخ لبنان من تأليف أسد رستم وفؤاد أفرام البستاني. (2)

ويروي قبرصي وكذلك جبران جريج (3) أن جلسة مناقشة البحث في تاريخ لبنان أثارت نقاشاً حاداً كان سببه رئيس الندوة زكي النقاش بالذات. فهو اعتبر أن الكتاب يتضمن تحاملاً على الإسلام، وعندما أبدى أحد المشاركين رأياً مخالفاً خيّم التوتر الشديد على الحضور. ولذلك تدخل الزعيم لإعادة الأمور إلى نصابها الفكري، شارحاً الأصول المتبعة في اجتماعات الندوة الثقافية في الحزب… مؤكداً على أنه “لا يجوز إقحام الإيمان الديني في بحث محض تاريخي محض علمي”. (4)

وقد حرص سعاده عندما أصدر قانون الندوة الأخير سنة 1948، على تضمينه إشارة إلى أنه “يثبّت” ندوة سنة 1937، أي أنه استمرار لها. ذلك أنه بعد إنهاء المظاهر الانحرافية في الحزب سنة 1947، استؤنف النشاط الثقافي القومي الاجتماعي خصوصاً من خلال الندوة الثقافية المركزية. وأوضح سعاده في المحاضرة الأولى بتاريخ 7 كانون الثاني سنة 1948 ما حدث للندوة خلال غيابه القسري، فقال: “في أول اجتـمـاع عُقـد في هـذا الـمكـان، وكـان مـخصـصـاً للطلـبـة القـومييـن الاجتماعييـن في الـجامعة الأميركية، وعدتُ الطلبة بإعادة النشاط الثقافي في الـحزب القومي الاجتماعي بإعادة الندوة الثقافية التي كانت تأسست في الـحزب قبل سفري واستمـرت نحـو سنتيـن، ثـم تـركـت أعمالـهـا بسبـب الـحـرب والاعتقـالات والـمعـارك السياسية التي تعرض الـحزب لها”. (5)

لكننا نقف على معلومات أخرى عن الندوة في تلك الفترة من خلال مقال بعنوان “ناحية من نواحي النهضة القومية” (6) نشره فخري معلوف في جريدة “سورية الجديدة” الصادرة في البرازيل، العدد 109 تاريخ 29 نيسان سنة 1941. فقد أشار إلى أن سعاده كان يحضر أغلب اجتماعات الندوة “ليتولى نقد الآراء التي تعرض وتعيين قيمة الأبحاث التي تتلى”. وبعد مغادرة الزعيم الوطن سنة 1938، كلفت عمدة الإذاعة فخري معلوف رئاسة الندوة خلال العام الدراسي 1938 ـ 1939. وكانت الاجتماعات تُعقد كل أسبوع بمشاركة حوالي الأربعين رفيقاً من مثقفي الحزب. وتم التركيز حينها على دراسة معمّقة لكتاب “نشوء الأمم”.

ويكشف مقال معلوف عن مسألة غاية في الأهمية إذ يقول: “ورأت عمدة الإذاعة أن توسع دائرة هذا العمل فأمرت بإنشاء الندوات الثقافية في مختلف الفروع، وكانت ترسل أعضاء مؤهلين من المركز لحضور تلك الاجتماعات والإشراف على توجيهاتها. فنشأت فروع للندوة في مناطق عديدة أذكر منها دمشق وطرابلس وحلب وعدداً كبيراً من القرى التي وُجد فيها الاستعداد. وانتشرت مع النوادي فكرة إنشاء مكاتب ثقافية فأسس الأعضاء عدداً كبيراً منها في جميع مناطق الحزب وفروعه”. ونحن نعرف أن اندلاع الحرب العالمية الثانية وحملات الاضطهاد التي تعرض لها الحزب وضعت حداً لأي نشاط ثقافي على هذا المستوى.

والحقيقة أنه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وحصول الحزب على رخصة للعمل في الكيان اللبناني تحت مسمى “الحزب القومي”، أعاد عميد الثقافة حينذاك فايز صايغ “تشكيل الندوة الثقافية كهيئة مستقرة في عمدة الثقافة. وهي تضم خمسة وعشرين من القوميين المثقفين، وتتداول في شؤون ثقافية مختلفة. وسننشر في هذه النشرة في المستقبل بعض الأبحاث التي تُدرّس في هذه الندوة”.(7) لكن نشاطات الندوة ظلت محكومة بالظروف المحيطة بالحزب، فلم يُتح لها المجال كي ترسخ قواعدها وتتحول إلى مؤسسة فاعلة تؤدي الدور الذي توقعه لها سعاده سواء عند تأسيسها سنة 1937 أو عندما أعيد تفعيلها سنة 1948. وفي أحيان كثيرة تحكمت بمناقشاتها “عوامل غير ثقافية”، مثلما حدث في ربيع سنة 1971 عندما عادت الندوة إلى الانعقاد لتتوقف بعد مدة نظراً إلى صراعات داخلية بين جماعات “اليمين” و”اليسار”! ومن المفيد الإشارة إلى أن أدونيس (علي أحمد سعيد) والدكتور منير خوري وعبود عبود (حيدر حاج اسماعيل) تولوا منصب رئاسة الندوة في فترات مختلفة.

وبغض النظر عن مسببات التقطع التاريخي لنشاطات الندوة الثقافية المركزية، فإن وجودها القوي يُعتبر حاجة قومية ملحة خصوصاً في آوضاعنا الحزبية والقومية الراهنة. وكما أن سعاده رأى بعد عودته “أنّ انتشار الـحركة القـوميـة الاجتمـاعيـة، فـي السنــوات الأخيـرة، كـان مجـرّد انتـشـار أفقـي، سطحـي، يعرّضها بقاؤها عليه للميعان والتفسخ والتفكك…”، فنحن نواجه اليوم حالات من البلبلة الثقافية والعقم الفكري لا يمكن التصدي لها إلا بتوسيع نطاق الندوة الثقافية المركزية. وعلى هذا الأساس رأى سعاده ضرورة “الإسراع في إعادة الندوة الثقافيـة ودرس تعاليـم النهضـة القوميـة الاجتماعيـة والقضايـا التي تتناولها (…). أمـا الـحضور إلى الندوة فيجب أن يُعدّ، خصـوصاً في الأوسـاط الثقافيـة، واجبـاً  أولياً أسـاسياً في العمل للحركـة القوميـة الاجتماعيـة، لأنه إذا لم نفهم أهداف الـحركة وأسسها والقضايا والـمسائل التي تواجهها، لن نكون قادرين على فعل شيء في سبيل الـحركـة والعقيـدة والغايـة التي اجتمعنـا لتحقيقها (…). وإذا كنـا نريـد، فعلاً، تـحقيق النهضة القومية الاجتماعيـة وتأسيـس الـمجتمع الـجديد بتعاليمها ودعائمها، كان الواجب الأول على كل قومي اجتماعي في الأوساط الثقـافيـة، الاطـلاع علـى الأمـور الأسـاسيـة، وفي صـدر وسـائـل الاطـلاع والـمعرفة الصحيحة الندوة الثقافية”. (8)

إن تحقيق غاية الندوة يستدعي تعديل “القانون الداخلي” بحيث يأخذ في الاعتبار المتغيرات الهائلة على أصعدة مختلفة: فكرية واجتماعية وإعلامية وغيرها. يُضاف إلى ذلك أن القحط الثقافي في الأوساط الحزبية يحتاج إلى خطط ومشاريع خاصة تستهدف شرائح معينة بين القوميين الاجتماعيين والمواطنين المقربين. وأعتقد أن البنود المتعلقة بشروط العضوية وواجباتها يمكن إعادة النظر فيها من أجل أن تعم الفائدة، وتتحقق “الثقافة القومية الاجتماعية” من ضمن الظروف الحالية. وعلى سبيل المثال: هل يمكن فتح باب العضوية لغير السوريين القوميين الاجتماعيين؟ هل المستوى التعليمي شرط ضروري للعضوية؟ وغيرها…

لقد لحظ سعاده في المادة العشرين من “القانون الداخلي” إمكانية التغيير: “يـمكن تعديل هذا القانون بناءً على اقتراح ثلثي أعضاء الندوة أو مباشرة من السلطة الـمختصة، أي باقتراح عمدة الثقافة على الزعيم أو من الزعيم رأساً”. هذا يعني أن لأعضاء الندوة دوراً حيوياً في هذا المجال، بالتنسيق مع السلطة المختصة.

ويتبيّن لنا من خلال هذا العرض الموجز أن الندوة الثقافية المركزية كانت تتأقلم مع الظروف المستجدة عندما تبرز الحاجة إلى ذلك. وهذا أمر متوقع نظراً إلى جسامة الأوضاع المصيرية التي تعيشها أمتنا وحزبنا. فالندوة الثقافية في مثل هذه الحالات ليست ترفاً فكرياً، وإنما هي بحث معمّق يهدف إلى اكتناه المعرفة المؤدية إلى نشوء الوعي القومي. ثمة متغيرات عاصفة في العالم على أصعدة مختلفة، بعضها يشكل تحدياً معرفياً للفكر القومي الاجتماعي. ومن هنا ضرورة أن نأخذ تلك المتغيرات في الاعتبار، وأن يشارك المثقفون القوميون الاجتماعيون في تطوير آليات الندوة، تمهيداً لإعادة قراءة كتابات سعاده ومراجعة تراثنا الحزبي وفق رؤية مستقبلية تقوم على أولوية العقل بوصفه الشرع الأعلى.

لا جدال في أن الندوة الثقافية المركزية، على مدى تاريخها، لم تؤد كامل الدور الذي كان يتوقعه سعاده. فقد كان من المفترض أن تصبح آكاديمية حزبية تفتح مجالات الحوار والبحث وتنضيج الأفكار، لكن الظروف الداخلية والخارجية منعتها من ذلك. ونحن اليوم، على صعيدي الحزب والأمة، أمام متطلبات لا يمكن التعامل معها إلا إذا تنكب المثقفون اقوميون الاجتماعيون مسؤولية إحياء القيم وترسيخ ثقافة الحياة الجديدة.

الهوامش:

1 – جبران جريج، “مع أنطون سعاده ـ الجزء الأول”، صفحة 101.

2 – “عبدالله قبرصي يتذكر ـ الجزء الأول”، صفحة 160.

3 – جبران جريج، مرجع سابق، صفحة 144.

4 – عبدالله قبرصي، مرجع سابق، صفحة 161.

5 – “الأعمال الكاملة ـ الجزء الثامن”، المحاضرة الأولى، صفحة 1.

6 – نقلاً عن جبران جريج، “من الجعبة ـ الجزء الرابع”، صفحة 300.

7 – نشرة عمدة الثقافة، المجلد الأول، العددان 4 و5، تاريخ تشرين الأول 1945. (صدرت هذه النشرة في شباط سنة 1945 وتوقفت بعد ستة أعداد في كانون الثاني سنة 1946).

8 – “الأعمال الكاملة ـ الجزء الثامن”، المحاضرة الأولى، صفحة 2.