كان لصدى البيان الأخير الذي نشرته حركة حماس، حول موقفها النهائي الواضح والصريح من علاقتها مع سوريا، والذي يحمل اعترافاً بمكانتها ودورها وفضلها، أثراً كبيراً في مستقبل الساحة الإقليمية، بإعادة تشكيل الاصطفاف السابق للحرب في سوريا، تأهباً للصراع المتصاعد في شرق البحر الأبيض المتوسط، وإمكانية حصول صدام عسكري كبير، ذي طابع وجودي سيتقرر به المنحى النهائي الذي تسير نحوه، على الرغم من تباين السوريين تجاه الخطوة الأخيرة للحركة، من منطلقات سياسية وعاطفية، ترتكز إلى ذكريات الدور السلبي الكبير للحركة، بعد انقلابها على سوريا، وتورطها في الحرب فيها وعليها.
لم تصل الحركة لهذا الموقف الجديد بسهولة، فهي قد عانت من البداية من انقسام مكتوم تجاه ما يجري في سوريا، منذ بدء الحرب في منتصف شهر آذار/مارس من عام 2011، حسمته قيادة خالد مشعل للحركة، الذي راهن على صعود التنظيم العالمي لحركة الإخوان المسلمين، التي ترتبط بها الحركة، وتعتبر الجزء الأبرز فيها، نتيجةً لإنجازاتها الكبيرة على مستوى مقاومة المشروع الصهيوني داخل فلسطين والمنطقة ككل، ولَم تأت هذه المراهنة من فراغ، بل اعتمدت على فكرة استيعاب المشروع الأمريكي الذي قادته هيلاري كلينتون، لضرورة تغيير وجه المنطقة، وتسليمها للإسلاميين تحت رعاية تركيا، المُكلفة بإدارة ملف بلاد الشام وشرق البحر الأبيض المتوسط، بعد مؤتمر الناتو في بروكسل في نهاية 2010، وكأن الولايات المتحدة غافلة عن مخاطر ما تسعى إليه هذه الحركات من أجل تسلّم مقاليد السلطة في جميع البلدان العربية، التي انهارت أنظمتها السياسية الحاكمة، وهذا ما دفع بقيادة الحركة للخروج من دمشق واللجوء إلى الدوحة واستنبول، وانتظار سقوط دمشق للعودة إليها مع الإسلاميين.
وعلى الرغم من إغلاق دمشق لمكاتب الحركة في 7/11/2012، فإنها لم تُغلق الأبواب نهائياً معها، وهي التي تراهن على الجناح العسكري بقيادة محمد ضيف، الذي امتنع عن التدخل في الحرب السورية، وفتحت لها مخازن صواريخ الكورنيت الروسية في عام 2012، التي أوصلتها قوى المقاومة إلى غزة، ولَم تعلن في أي يوم من الأيام إعلان القطيعة النهائية مع الحركة، وبخاصةً بعد أن استطاع يحيى السنوار الوصول إلى قيادة المكتب السياسي في غزة عام 2017، ضمن توجه واضح لكتائب القسام، لتجاوز الرهانات الكارثية التي وضعت الحركة في مواجهة مع تاريخها بوصفها حركة مقاومة، منذ تأسيسها 15 كانون أول/ديسمبرعام 1987، وانكسار تيار الحركة الموالي للتنظيم العالمي بالعنوان القطري التركي، في انتخابات الحركة الأخيرة، التي رسخت يحيى السنوار مقابل نزار عوض الذي كان يمثل تيار خالد مشعل، ما عزز حوار العودة إلى دمشق، التي تتعاطى مع فلسطين باعتبارها جزءاً من الجغرافيا السورية، بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي فيها.
لم يأت هذا التحول الجديد وقرار العودة إلى دمشق، نتيجةً لرغبات ذاتية داخلية في الحركة فقط، بل لعبت مجموعة من العوامل والدوافع، التي سهلّت غلبة تيار العودة، مقابل تيار الرهان على إستنبول والدوحة.
أولها: بدء انكسار المشروع الأمريكي بالعنوان الإسلامي، وانتقاله إلى منحى جديد، بعد سقوط التجربة الإخوانية في مصر، بعد انتفاضة 30 حزيران/يونيو 2013، وعودة الجيش المصري لاستلام الحكم فيها، وما ترك ذلك من آثار على التنظيم العالمي بالعنوان السوري والليبي والتونسي والأردني والمغربي.
الثاني: يتعلق بموقف دول الخليج عموماً، التي اعتبرت مشروع تعويم حركة الإخوان المسلمين بعناوينها المحلية، بمثابة تهديد وبديل لأنظمتها السياسية، ما دفعها للضغط الشديد، والمشاركة بإسقاطها، ولَم يتوقف الأمر عند هذا الجانب، بل امتد إلى داخل فلسطين، بعد الكشف عن رهانات العلاقة العلنية مع “إسرائيل”، والضغط لتحويل الحركة من الجانب المقاوم، إلى إطار سلطوي بديل عن السلطة الفلسطينية، بما يشكل تهديداً واضحاً لمستقبل تحرير فلسطين وعودة أهلها.
الثالث: هو بدء التراجع التركي عن دعم التنظيم العالمي، بعد تداعيات السياسات التركية الخارجية على الداخل التركي، والتراجع الاقتصادي الكبير، وأثره في شعبية حزب العدالة والتنمية، وتقلص حظوظ الرئيس إردوغان بالفوز في الانتخابات الرئاسية لعام 2023، ما دفع به لبدء رحلة التنصل من حركة الإخوان المسلمين في مصر والإمارات والسعودية وفلسطين المحتلة، لتصفير مشاكله مع هذه الدول، ومن الجملة كانت حركة حماس “تيار خالد مشعل”، إرضاءً “لإسرائيل”.
رابعاً: وهي الضربة الأخيرة لهذا التيار، كانت من الدوحة، بعد زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى الدوحة، وإعلان أميرها تميم، بأن قطر لا تدعم الإخوان المسلمين، وهذا الأمر يعني سقوط آخر الرهانات.
وبالعموم أصبحت البيئة الدولية والإقليمية التي تقودها الولايات المتحدة، غير مناسبة لتيار المراهنة، على إمكانية الوصول إلى السلطة السياسية، بعد انتظار طويل قارب قرناً من الزمان، منذ أن تأسست الحركة عام 1928.
وبالمقابل كانت هناك جملة من العوامل الإيجابية التي ساعدت التيار الذي امتنع عن التدخل في الحرب السورية، على حسم الخيار النهائي بالعودة إلى دمشق:
الأول هو انخراط هذا التيار بكل المواجهات التي حصلت مع جيش الاحتلال، وآخرها في عملية سيف القدس عام 2021، وأثبت من خلالها تنامي قدراته العسكرية، لتصبح الحركة الرقم الأصعب والأكثر قدرة داخل غزة وبقية المناطق الفلسطينية.
الثاني هو استمرار إيران وحزب الله بالدعم المالي والعسكري والتقني لكتائب عز الدين القسام، على الرغم من المواجهة التي حصلت مع مجموعات من الحركة في سوريا، وبالمقابل فإن الدور التركي لم يتجاوز الدعم السياسي،الذي سُحب على مذبح عودة العلاقات مع “إسرائيل”، كما أن الدعم القطري لم يتجاوز الدعم المالي المشروط وفقاً للإرادة “الإسرائيلية”، ما جعل للوساطات الإيرانية وحزب الله دوراً فاعلاً في تسريع وتعزيز حسم القرار الداخلي لحماس بالعودة للاصطفاف الكامل مع المحور الممتد من طهران إلى دمشق وبيروت.
الثالث كان الموقف السوري، الذي لم يقطع خيوط العلاقة بشكل نهائي، وينتظر تغيير البيئة الداخلية للحركة، وسقوط رهانات حركات الربيع العربي، وحاجة سوريا لمراكمة أوراق القوة لاستعادة الدور الإقليمي، الذي يمكنها من الخروج من كارثة الحرب، وإعادة السيطرة على كل الأراضي السورية، وتشكل فلسطين البوابة الحقيقية لذلك، عدا إعادة بناء الداخل السوري.
الرابع تمثل بالانقسام الدولي العمودي بين الدول الآسيوية الصاعدة التي تقودها الصين وروسيا، وبين الولايات المتحدة والدول الغربية و”إسرائيل”، ما دفع بروسيا إلى التعاطي مع الحركة بشكل إيجابي، بصفتها إحدى أوراق القوة لضبط الانزياحات الإسرائيلية من جهة، ولمواجهة المشروع الأمريكي في شرق المتوسط من جهة ثانية، ما عزز الموقف تيار العودة إلى دمشق، بخاصةً بعد زيارة وفد الحركة إلى موسكو.
وعلى الرغم من القرار الجريء، والاعتذار المبطن من سوريا في بيان الحركة الأخير، فإن ما تراكم خلال سنوات الحرب، يتطلب سياسات حذرة ودقيقة، والمزيد من الوقت لإعادة بناء الثقة، فالبيئة السورية العامة لم تعد كما كانت قبل عام 2011، ولا يمكن أن تصل إلى المستوى المطلوب، إلا بالإنفكاك عن الهيكل العام للتنظيم العالمي لحركة الإخوان المسلمين، والتحول إلى حركة مقاومة، بعيداً عن المشروع السياسي.
د. أحمد الدرزي