اتحاديون

اتحاديون

تقوم فضائيات لبنانية معروفة بعلاقاتها وبهواها الغربي – الخليجي، بالتسويق الإعلامي لأخطر شعار سياسي يهدد لبنان في هذه المرحلة، وهو شعار “اتحاديون”.
للوهلة الأولى ولأشخاص يعيشون خارج لبنان ولا يتابعون أخباره وتاريخه السياسي، يبدو الشعار جذابا جدا في زمن الطائفية والتناحرات المذهبية والجهوية، وذلك قبل أن ينتبه مشاهدو ومتابعو هذه الفضائيات إلى أن المسألة تعكس زمن الطائفية بالذات، وما يجرّه من حروب وفتن وويلات ذاق اللبنانيون منها الأمرّين، وقبل مجيء السوري والفلسطيني وصعود حزب الله، حيث درج الخطاب الانعزالي على اتهام هؤلاء بالوقوف وراء ما شهدته لبنان من أحداث دامية.
فاللحظة الأولى من زمن الطائفية اللبناني ولدت 1860 على يد أصدقاء الطائفيين المعاصرين، بريطانيا وفرنسا، حين تبنت كل منهما طرفا في حرب أهلية تم إضفاء طابع طبقي عليها، إقطاع وفلاحون.
أما اللحظة الأخطر في زمن الطائفية، فهي التي كرسها الفرنسيون فيما أسماه غورو بـ “لبنان الكبير” على أساس محاصصات طائفية، وصولا إلى اللحظة الأمريكية 1958 عندما حاول الأمريكيون مواجهة حركة التحرر التي ضمت تيارات شتى من كل الطوائف، فهيجوا أوساطا طائفية محددة تحت عنوان الخطر الذي يتهدد الطابع المسيحي الماروني، لكيان كان أشد فلاسفته، ميشال شيحا، من بلد آخر هو العراق ومن طائفة غير مارونية.
ومن قبل ومن بعد، الأصابع الصهيونية التي لم تغب عن تحريك المشهد الطائفي في لبنان منذ عام 1948 وفق إعلانات ومذكرات ودراسات منشورة جهارا نهارا، لم يعتذر عنها أحد من المشار لهم فيها، وغالبا ما صدرت هذه الدراسات عن مراكز وأوساط لا علاقة لها بحزب الله والمقاومة الفلسطينية قبله وسوريا والناصرية قبل الأخيرة، ومن ذلك المصادر الصهيونية:

  • بني موريس، أحد المؤرخين اليهود الجدد في كتابه “الطائفيون العرب والحركة الصهيونية”.
  • زئيف شيف، مؤرخ عسكري صهيوني وصاحب كتاب “الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982”.
    إلى ذلك، عن أية كونفدرالية أو فدرالية إدارية (برسم التحول الموضوعي إلى سياسية) يتحدثون ويسوقون شعار “اتحاديون”.
    موضوعيا، على الصعيد النظري كما على صعيد التجارب السياسية، فالصيغة الاتحادية تتعلق غالبا بجماعات قومية ذات بعد إثني أو اثنوجرافي (ثقافي – اجتماعي)، وما عدا ذلك فكل الجماعات التي انخرطت في (اتحادات) طائفية كانت ضمن أجندة المتروبولات الرأسمالية وأقلام استخباراتها.
    على هذا الصعيد وعلى أهمية الأدبيات السياسية الماركسية ومنها أعمال لينين، مفكر وقائد ثورة أكتوبر الروسية الاشتراكية، الذي تحدث عن حق تقرير المصير القومي للشعوب التي كانت تحت نير القيصرية الروسية الرجعية، فإن الثقافة السياسية الليبرالية نفسها ركزت على البعد نفسه، البعد القومي لتقرير المصير وليس أي بعد طائفي أو مذهبي.
    بل أن الدولة الحديثة في العالم الليبرالي الرأسمالي وغيره والتي تعرف بدولة وستفاليا، هي دولة قومية قامت على أنقاض الحروب الطائفية ومنها حرب الثلاثين عاما التي أجهزت على بقايا الامبراطوريات الإقطاعية ما قبل القومية المدعومة من الفاتيكان، ونقلت أوروبا إلى حضارة جديدة ما فوق مذهبية، رغم أن أوروبا الجديدة سرعان ما تورطت في إنتاج الفتن الطائفية خارج حدودها لتكريس هيمنتها ونهبها لموارد وأسواق الشعوب المقهورة.
    بالمحصلة، إن شعار “اتحاديون” في لبنان الذي يدعو لتقسيم طائفي متدرج باسم اللامركزية الإدارية قد ينتهي بلا مركزية طائفية، وهو شعار رغم مزاعم التمدن اللبناني عند أصحابه ينتمي في الواقع إلى القرون الوسطى، إلى ما قبل دولة وستفاليا القومية البرجوازية، وذلك علما بأن من أصحاب هذا الشعار هم الذين يتماهون مع الانبعاثات الأصولية التكفيرية وقطع الرؤوس على الحواجز وليس “الثنائي الشيعي” وأهالي “الطريق الجديدة”.
    فبعيدا عن الثقافة الانعزالية لم نسمع من أحد لا في الضاحية ولا في طرابلس مثلا دعوات لأي تقسيم أو لا مركزية إدارية تنتهي باللامركزية السياسية، بل أننا نعرف أن هناك قوى من الذين يتبنون هذا الخطاب يقومون بتدريب شرطة بلدية وغير بلدية في بلد عربي له خبرات سابقة في هذا المجال.
    من باب التوضيح أيضا، وأيا كانت نسبة المسيحيين اليوم في لبنان، فإن تهميش دورهم السياسي ومكانتهم الأساسية في الدولة اللبنانية، تهميش مرفوض بل ومشبوه ولا ينفصل عن حرب الإلغاء الأصولية – الصهيونية للمسيحيين في الشرق كله، والتي جرت بدعم أصدقاء تيار اللامركزية نفسه وخاصة الامبريالية الانجلو سكسونية.
    للتذكير أيضا بأن الذين حموا المسيحية الشرقية في العراق وسوريا وفي لبنان هم أطراف معسكر المقاومة الذين استهدفهم الغرب الامبريالي، صديق الانعزاليين، وهم الذين لم ينصفهم اتفاق الطائف، ولكنهم لم يوجهوا بنادقهم نحو الداخل، بل نحو الجنوب حيث يربض العدو الصهيوني المتربص بالجميع ويحتل أراض معروفة من لبنان، وذلك باعتراف مهندس الكيانية اللبناني نفسه، شيحا، الذي رأى في النموذج اللبناني الذي يحلم به أكبر منافس لـ “إسرائيل”.