الثقافة النهضوية فِعْلُ أملٍ ورجاء

الثقافة النهضوية فِعْلُ أملٍ ورجاء

كلمة رئيس الندوة الثقافية المركزية في نشرتها

منذ بضعة أشهر انطلقت الندوة الثقافية المركزية بأعمالها فنُظّمت سلسلة ندوات فكرية شاركت فيها مجموعة من الباحثين القوميين الاجتماعيين والأعضاء المنتمين للندوة. ومنذ البداية، كان وما زال هاجس الهيئة الإدارية لهذه الندوة هو إيجاد ورَش عمل ثقافية جدّية تعيد مشهد الثقافة القومية الاجتماعية إلى فاعليته وانتاجه وتألّقه وذلك إيماناً منا أنَّ هذه الثقافة المُنعشة هي فِعلُ أمل ورجاء في زمن التيئيس وتراجُع الثقة، لأنها تُقوّي فينا العزم والإرادة وتنمّي مواهبنا وتحفِّزُنا على الخلق والعطاء والإبداع وتدفعنا للنضال ضد الظلم والعدوان والتردّي العام.

الثقافة القومية الاجتماعية هي ضرورة ماسة لمناعتنا ووحدتنا الروحية ولتعزيز وعينا لقوميتنا ونفسيتنا الأصلية ولإحياء مناقبنا الجديدة الراقية. وهي ضرورة ماسة لوحدة مجتمعنا وتقدمه ولاستئصال ما فيه من أمراض ومثالب وجهل وانحطاط، لأنها، أولاً، ثقافة أصلية تُعبِّرُ عن جمال نفسيتنا وشخصيتنا القومية وعن تراثنا القومي وهويتنا الجامعة وتدفعنا للمحافظة على هذا التراث وعلى هذه الهوية، ولأنها، ثانياً، ثقافة تنويرية تكشف أمراض المجتمع وسلبياته وتتصدى لآفاته وأوضاعه المتردّية وتُعرّي ما ينخر فيه من مماحكات ونزاعات وما يضرُّ بمصالحه من اتجاهات تعصبية وفئويات خصوصية ونزعات فردية، وتقودنا إلى المعرفة الصحيحة التي تُوَظف بكفاءة في جميع مجالات النشاط المجتمعي.

الحزب السوري القومي الاجتماعي هو حزب صراع وحزب فكر وثقافة بالدرجة الأولى، والثقافة شرط ضروريّ لعمل مؤسّسات الحزب وحيويّتها. لقد شّكَّلت الثّقافة في أعمال الحركة القوميّة الاجتماعيّة شأناً عظيماً لما لها من وظائف وغايات. فهي، بالدّرجة الأولى، شأن اجتماعيّ حضاريّ وعمل عقليّ راقٍ يُحقّق يقظة الشّعب ونهضته ويخدم المجتمع وارتقاءه من خلال الانكباب على أوضاعه ومشكلاته، ومن خلال كشف حقائقه وإظهار قيمه الجميلة ومثله العليا.

وغاية الثّقافة القومية الاجتماعية هي إحياء المناقب وسحق المثالب ومحاربة الفساد والجهل المتفشّي والتّفكير الانحطاطيّ والارتقاء بالفكر والمجتمع وصولاً إلى حياة أفضل وأجمل. ويمكن توظيف الثّقافة في خدمة الأهداف والمطامح النّبيلة كالتّربية والتّنوير وتصحيح الانحراف وتوجيه السّلوك الإنسانيّ وترسيخ الفضائل وتنشئة الأجيال وتهذيب النّفوس وترقية المجتمع والسّعي لإقامة الحياة الجميلة. لذلك يقول سعاده إن “قصد الثّقافة أو التّربية هو دائماً تقويم الاعوجاج وتوجيه قوى الحياة نحو الأفضل.”[1]

ومنذ تأسيس الحزب السّوريّ القوميّ الاجتماعيّ برزت قضيّة الثّقافة وأهمّيّتها فاعتبرها سعاده القضيّة الأولى الّتي تواجه العقيدة القوميّة الاجتماعيّة في حربها ضد الأوهام والعقائد الرجعية المهترئة، وشدَّدَ على جعل هذه القضية في مقدّمة القضايا الّتي يجب أنّ نوليها اهتماماً خاصّاً، وأن نضع لها الخطط ونرتّب الصّفوف. كان اهتمامه بقضيّة الثّقافة اهتماماً جدياً وواضحاً، إذ أنشأ لها المؤسّسات الخاصّة ووضع لها المناهج والقوانين وأصدر التّعليمات إلى المسؤولين في المغتربات لإيلائها أهمّيّة استثنائيّة و”تعميم إنشاء الجمعيّات السّوريّة الثّقافيّة في جميع المهاجر القوميّة… وإنشاء مجلّة ثقافيّة جامعة تنشر المحاضرات والأبحاث والأخبار الثّقافيّة الّتي تصدر عن هذه الجمعيّات.”[2] ولم يترك مناسبة إلّا وشدّد فيها على أهمّيّة الثّقافة لأنّها تشكِّلُ “ناحية أساسيّة من نواحي عملنا”[3] وشرطاً ضروريّاً لعمل مؤسّسات الحزب الجديدة وحيويّتها. وقال “إنّ معركة التّثقيف لا تزال في بدئها، إنّها جبهة من جبهات حرب العقائد الكبرى. إنّها حربنا المقدّسة…”[4]

وقبل سفره، أنشأ سعاده في خريف سنة 1937 “النّدوة الثّقافيّة” “للأبحاث الثّقافيّة ولنقل الفكر من السّطحيّات ومسائل الإدراك العاديّ إلى الأساسيّات وقضايا العقل العلميّ والفلسفيّ.”[5] ووضع لها قانوناً خاصاً شرح فيه الغاية من “النّدوة الثّقافيّة”. وبعد عودته من المغترب القسريّ أعاد سعاده العمل بالنّدوة بعدما وجد أنّ “انتشار الحركة القوميّة الاجتماعيّة، في السّنوات الأخيرة، كان مجرّد انتشار أفقيّ، سطحيّ، يعرّضها بقاؤها عليه للميعان والتّفسّخ والتّفكّك.”[6]

لقد حرص سعاده على توفير البيئة الملائمة التي تنبت فيها المعرفة اليقينية وحثَّ الأوساط الثّقافيّة على اكتساب معرفة عميقة وراسخة وغنيّة بمحتواها وعلى تنمية التّراكم المعرفيّ واتّباع منهجيّة البحث العلميّ وطرق التّفكير المنظوميّ systemic thinking لتوليد المعرفة الحقّة وللتعمّق بفهم أهداف الحركة والقضايا التي تواجهها “لأنّه إذا لم نفهم أهداف الحركة وأسسها والقضايا والمسائل التي تواجهها، لم نكن قادرين على فعل شيء في سبيل الحركة والعقيدة والغاية التي اجتمعنا لتحقيقها. فالمعرفة والفهم هما الضّرورة الأساسيّة الأولى للعمل الذي نسعى إلى تحقيقه.”[7]

وفهْمُ أهداف الحركة وأسسِها لا يعني حفظ نصوص مبادئ الحزب وتردادها كما يفعل بعض الحرفيّين المتحجّرين، بل يعني دراسة هذه المبادئ، التي تشكِّل “قواعد انطلاق الفكر”[8]، والمسائل التي تواجهها ودراسة القضيّة التي تتكوّن منها “بكامل أجزائها وفروعها وما تتكشّف عنه من مناقب وأهداف سامية وما تتعرّض له في سيرها من مثالب في الحياة.”[9] وهذه القضيّة تستوجب إقامة النّدوات والمحاضرات والأبحاث الفلسفيّة والتّاريخيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والنّفسيّة، وتحتاج كما يقول سعاده، “إلى دراسة منظّمة متسلسلة لا تجمعها محاضرة واحدة أو كتاب بل هي تستمرّ، ويستمرّ الفكر يتغذّى منها ويتفتّح على شؤون العالم مطلقاً، ويظلّ مجتمعنا يجد في هذا التّفتح وهذا الاستمرار مراقي إلى ذروة الحياة الجيّدة التي تليق بالإنسان الرّاقي ويليق الإنسان الراقي بها.”[10]

واليوم، وفي ظلّ ما تتعرّض له أمّتنا من حرب على وجودها وهيمنة على ثرواتها وحكوماتها، ما أحوجنا إلى الثّقافة القوميّة الاجتماعيّة الأصيلة التي تراهن على إرادة الحياة في شعبنا وعلى النّفوس المؤمنة الواثقة بقدراتها وبما يختزن فيها من خير وحقّ وجمال وإبداع.

ما أحوجنا اليوم إلى الثّقافة القوميّة الاجتماعيّة في مواجهة غزو ثقافيّ وفكريّ وإعلاميّ هو أخطر بكثير من الغزو العسكريّ لأنّ غايته هي احتلال العقول وإحداث الهزيمة في نفوسنا وبالتّالي إحداث تغييرات فكريّة وذهنيّة تجعل من شعبنا مستسلماً للإرادتين الدّوليّة والصّهيونيّة وراضخاً لمشيئتهما…

ما أحوجنا اليوم إلى الثّقافة القوميّة الاجتماعيّة في مواجهة أوضاعنا المتردّية التي نشهد فيها استفحال النّزعة الفرديّة الرّعناء والعصبيّات الطّائفيّة والمصالح الخصوصيّة والفئويّات والمماحكات والنّزاعات وإلى ما هنالك من أمراض تفتك بمجتمعنا.. في ظلِ هذه الأوضاع، لا يسعنا إلّا التّمسك بعقيدتنا القوميّة الاجتماعيّة والانكباب على دراستها والسّعي لتعميمها في أوساط الشّعب لأنّها وحدها عقيدة الإنقاذ المعطّلة لكلّ الانقسامات والفئويّات والعصبيّات والجامعة للشّعب.

من هذا المنطلق، واستكمالاً لأعمال الندوة الثقافية، نطلق اليوم ورشة عمل جدّية تتمثل في هذه النشرة الثقافية – الندوة – بهدف التّعبئة الفكريّة الواسعة والإنتاج المعرفيّ والعلميّ وبذل الجهود البحثيّة والثّقافيّة بكلّ أشكالها المؤدية إلى إغناء الحياة الفكرية في الحزب واستعادة دوره الطليعي في استقطاب المبدعين من أدباء ومفكّرين وباحثين ومثقّفين وفنّانين وطلبة ودعوتهم للإنخراط في مشروع إنشائي كبير لتأهيل المجتمع وبعث حيويته بثقافة عصريّة جادّة وموحِّدة تمكّنه من التّصدي والمواجهة لكلّ المعضلات والتّحدّيات الحضاريّة والإنسانيّة ومن تحقيق النّصر في معركة الوجود والتّحرّر والبناء وتثبيت الهويّة القوميّة.

إن استنهاض حزبنا يستوجب منا تكثيف الجهود في التثقيف والإنتاج المعرفي على ضوء العلم والعقل بغرض الخروج من الميعان العقائدي والأخلاقي والبلبلة الروحية الفكرية وتقوية وحدة الفكر والقصد والاتجاه الواضحين. ونحن أخذنا على عاتقنا التخطيط والعمل الجاّد لإغناء ندوتنا الثقافية المركزية بمزيد من الدرس والمحاضرات والنقاشات واللجان البحثية ولإنتاج المعرفة الصحيحة التي نحتاج إليها والتي تزيدنا وعياً وقوة وعزما فيما نحن نتنكب مسؤولياتنا في صلب معركة المصير القوميّ ضدّ أعداء الأمّة والوطن.

إنّ قضيّتنا القوميّة بأشدّ الحاجة في هذه المرحلة إلى الأدباء والمفكّرين والمثقّفين والطّلاّب وكلّ المؤمنين والغيورين على مصلحة الأمّة والوطن. إنّ الواجب القوميّ يدعونا جميعاً لنصرة قضيّتنا المقدّسة التي تعاقدنا من أجلها لنقف معاً وننتصر معاً. فتعالوا لنتعمّق بعقيدتنا ولننتج الثقافة النهضوية الأصلية التي تشكل فعل أمل وتفاؤل بمستقبل مشرق للأمة بعد أن غابت عنها الأحلام والأماني الجميلة وحلَّ فيها الجهل والظلام والانحطاط.

تعالوا لنعمم الثّقافة القوميّة الصّحيحة التي تحرّك العقول وتُوَّلِّد الروح القومية وتفجّر الطّاقة الخلّاقة في مجتمعنا وتؤهّله وتعدّه لمواجهة الأخطار بخطّة نظاميّة عقلانيّة تحيي حقيقتنا التّاريخيّة وتراثنا الإبداعيّ وتعمل لوحدة المجتمع ورقيّه…

تعالوا نحمل المبادئ القوميّة الاجتماعيّة المعبِّرة عن حقيقة الأمّة ومقاصدها ونقدّمها للشّعب كعقيدة إنقاذ ووعي

قوميّ صحيح ونعمل على ترسيخها وتحقيق غايتها فنثبت للعالم أنّ أمّتنا لا مكان لها في قبر التّاريخ.

د. ادمون ملحم


[1] أنطون سعاده، الإسلام في رسالتيه، الطبعة الرابعة 1977، ص 73.

[2] رسالة إلى وليم بحليس، 14/08/1940، المجلد التاسع 1926-1940.

[3] المرجع ذاته.

[4] محاضرة الزعيم في مؤتمر المدرسين، النظام الجديد، المجلد 1، العدد 5، يوليو/ تموز ـ أغسطس/ آب 1948.

[5] قانون ندوة الحزب السوري القومي الإجتماعي  النشرة  الثقافية الرسمية للحركة القومية الاجتماعية، بيروت، المجلد 1، العدد 9، 1/5/1948.

[6] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 13.

[7] المرجع ذاته، ص 13.

[8] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 16.

[9] المرجع ذاته، ص 27.

[10] المرجع ذاته، ص 27-28.