خطاب اعلامي إيجابي أم اعلام قومي اجتماعي؟

نظريا، الاعلام في الدول القوية المستقلة يعكس واقع المجتمع والنظام السياسي والطبقة السياسية الحاكمة في اي دولة. ففي الأنظمة الأوتوقراطية، الاعلام السياسي يعكس رأي المجموعة الحاكمة ويخنق الأصوات الأخرى التي قد تحاول الوصول الى الشعب من خلال اعلام معارض للحكم موقعه خارج البلاد او سري مختبئ داخل البلاد (من خلال وسائل التواصل الاجتماعي مثلا). في الأنظمة الأكثر حرية والأكثر ديموقراطية، الاعلام السياسي أيضا يعكس خطاب النخبة السياسية (political elite)، فعندما تكون هذه النخبة السياسية منقسمة، فكذلك الاعلام، وعندما تكون موحدة، يكون الخطاب الإعلامي موحد بشكل عام.

مثلا، في الولايات المتحدة بعد هجمات 9/11 وبعد بدء الحرب على العراق، توحدت الطبقة السياسية ومعها الاعلام، وكان هذا الاعلام يوازي بنهجه الدول الاوتوقراطية. أما إبان حرب فيتنام وقبل الحرب على العراق، كانت هذه النخبة السياسية منقسمة وأنعكس هذا الانقسام في الاعلام. أما في السعودية وإيران وروسية مثلا، فالاعلام هو بمثابة صوت السياسة الداخلية والخارجية للمجموعة الحاكمة والانقسامات والتنوع في الخطاب السياسي الإعلامي شبه منعدمة. ولكن الأهم ان في كلا الأنظمة الأوتوقراطية والديموقراطية، أن الاعلام السياسي عامة يخدم مصالح الوطن والأمة ونادرا ما يخرج عن هذا الإطار.
أما في الدول الضعيفة الما بعد استعمارية (post-colonial) والتي قد تكون استقلت شكليا ولكنها ما تزال تعاني من رواسب ونير الاستعمار (بأشكال عدة اقتصادية وحماية سياسية وتدخل اجنبي وضعف وانقسام داخلي…)، فالأعلام يكون متخبط بين مصالح النخب الحاكمة المتناقضة وبين مصالح الدول الأجنبية التي تتبارز على التحكم بهذه الدول وسرقة ثرواتها من خلال دعم هذه النخب ودعم مؤسسات إعلامية داخلية وانشاء مؤسسات إعلامية خارجية تستهدف شعوب هذه الدول، بالإضافة اليوم الى الاستثمار في منصات التواصل الاجتماعي، والجيوش الالكترونية والمؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي (social media influencers).
في لبنان الما بعد استعماري، لبنان الضعيف سياسيا واجتماعيا وعسكريا واقتصاديا كسبب مباشر للاستعمار ومؤامرات سايكس بيكو وغيرها وما نتج عنها من تقسيم لبلاد الشام، بلاد الهلال الخصيب، وخلق كيانات ضعيفة، متناقضة، مشلولة، مكرسحة، قابلة باي لحظة الى التفكك والسقوط والدخول في حرب أهلية او الانقسام والانشطار الى كيانات أخرى اضعف او كونتونات او فيدراليات كما يروق للبعض تسميتها، لبنان النظام الطائفي/المذهبي حيث لكل من الطوائف الكبرى نخبتها السياسية واعلامها الخاص وحماتها من إكليروس ورجال دين ورعات اجانب، لبنان النظام العنصري حيث التمييز السلبي ضد اهل شعبنا من سوريين وفلسطينيين وعمال أجانب وغيرهم، والتمييز الايجابي لصالح الأجنبي الغربي الأبيض—المستعمر السابق والراعي الحالي، لبنان النظام الطبقي الذي يخدم الغني ويغنيه ويستعبد الفقير ويزيد من افقاره واستعباده، لبنان النظام الذكوري الذي لا يعامل المرأة كانسان كامل الحقوق بل كعورة وطفلة غير مستقلة وغير مسموح لها التصرف بجسدها وعقلها بحرية من دون قرار الرجل، لبنان النظام الاقطاعي والنيو-اقطاعي حيث يرث أولاد السياسيين مراكز آباءهم بغض النظر عن كفاءتهم، فالمهم ان يؤمنوا استمرارية استئثار العائلة بثروات الوطن ومصالحه واستعباد شعبه… وكي نكون منصفين هو أيضا لبنان المقاوم الذي قهر العدو الصهيوني (رغم الضعف والانقسام)، لبنان حرية التعبير والاعلام والفكر والعلم والضامن والحامي للأفكار والعقائد السياسية الجديدة والراديكالية والثورية، لبنان الطامح للوحدة مع محيطه لتحقيق شروط القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية، هذا كله لبنان وأكثر بكل تناقضاته، وهذا ما يعكسه الاعلام اللبناني التقليدي والحديث (التواصل الاجتماعي).
والدراسات تعكس هذه النظرية:
دراسة الاعلام اللبناني خلال جائحة كورونا
في دراسة اجريناها إبان جائحة كوفيد19 وجدنا التالي: عند بداية الجائحة كان الاعلام متخبط طائفي بامتياز: لوم للشيعة على استيراد الفيروس من إيران والطلب بوقف طائرات الموت، وبعدها اتهام المسيحيين باستيرادها من إيطاليا، وبعدها استثمار المرض سياسيا… ولكن (دليل لبعض الامل) بعد اعلان منظمة الصحة العالمية الفيروس جائحة، توحدت الابواق الإعلامية (لبرهة من الزمن) لمصالح المجتمع ولخدمة مكافحة الجائحة وحماية البشر بغض النظر عن طائفتهم او عقيدتهم او طبقتهم او جندرهم. ولكن بعد شهرين ونصف رجعت حليمة لعادتها القديمة وعاد الانقسام والاستثمار السياسي للجائحة… الدراسة ملخصة في مرصد الصحافة الأوروبية وفي هذا الوثائقي للجمعية العربية الأوروبية لباحثي الاعلام.
دراسة حرب 2006
في دراسة للتأطير الإعلامي من قبل الاعلام الغربي واللبناني والعربي واعلام العدو الإسرائيل، وجدنا ان الاعلام منقسم الى ثلاث مجموعات: المجموعة الأولى تشكل أكثرية الاعلام الغربي وكانت بشكل شبه كلي تنقل الأطر الإعلامية الداعمة للعدو الإسرائيلي، ما عدا في آخر أيام الحرب عندما أصبح واضح ان المقاومة انتصرت. المجموعة الثانية كانت خليط من الاعلام العربي واللبناني والذي كان يتأرجح بين الأطر الخادمة للعدو والاطر المتطابقة مع اهداف ومصالح المقاومة والدولة ومنها: قناة العربية وقناة المستقبل والـLBC. ومع تطور الحرب تغير التأطير تدريجيا حتى اصبح في الأخير لصالح المقاومة. اما المجموع الثالثة فكان تأطيرها مناصر كليا للمقاومة ومن هذه القنوات الجزيرة والجديد والمنار (لم نتمكن من دراسة تغطية الـNBN لان المحطة لم تزودنا بالمواد الإعلامية). الدراسة منشورة في مجلة الاعلام والحروب والنزعات وبالعربية في مجلة المستقبل العربي.
دراسة الفورة اللبنانية في 2019: في اول أيام الفورة كان الاعلام بشكل عام متناسق مع مطالب الشعب العامة ولبضعة أيام توحد حول هذه المطالب، ولكن سرعان ما انقسم الخطاب الإعلامي الى جبهتين تعكس الواقع السياس المنقسم الى جبهتين اليوم: في دراسة عن التأطير الإعلامي للفورة وجدنا ان غالبًا ما نشرت القنوات المؤيدة للاحتجاجات إطر التضامن (أي إطار يقدم المتظاهرين بشكل إيجابي ويظهر كيف يعملون معًا)، بينما استخدمت القنوات المناهضة للاحتجاجات أطر الصراع (أي إطار يركز على التصادم والخلاف) وأطر التفهّم (أي ان السياسيين يتفهمون وضع الشعب وسبب احتجاجاته) وأطر العنف (أي التركيز على العنف من وبين المتظاهرين) وأطر العواقب الاقتصادية (أي التركيز على الضرر الاقتصادي الناجم عن الاحتجاجات). ولكن، توحد الاعلام حول إطار وسردية واحدة: صحيح ان السياسيين قد يكونون سبب الازمة ولكنهم وحدهم يشكلون الحل للخروج من هذه الازمة. الدراسة منشورة في المجلة العالمية للأعلام والسياسة.
عنوان هذا المؤتمر هو الخطاب السياسي الإيجابي، وقد يصلح هذا العنوان لدول قوية موحدة ذات هوية واضحة. أما في لبنان، في واقع ضياع الهوية، والضعف، والطائفية، والطبقية، والعنصرية، والشلل، والانهيار، والتدخل الأجنبي، والارتهان للخارج، وفي ظل الخطر الصهيوني وخطر مشاريع الانقسام الدائمة الحضور، فالخطاب السياسي الإيجابي لن يفيد. إيجابي لمن؟ إيجابي لاي طرف؟ إيجابي لاي موضوع؟ الإرهاب؟ التطرف الديني؟ التطبيع مع العدو؟ الانقسام تحت عنوان الفدرلة؟ الفساد…؟
نحن بحاجة لخطاب سياسي توحيدي، ضد الطائفية، ضد العنصرية، ضد الطبقية، ضد الذكورية، ضد الاستعمار الحديث، ضد الصهيونية ضد الاقطاعية الحديثة وضد النيو-استعمار. نحن بحاجة لخطاب اعلامي قومي اجتماعي: أي خطاب مقاوم، ثائر، شجاع، يحث على الوحدة الداخلية والوحدة مع دول المحيط الطبيعي والبيئة الجغرافية الاجتماعية الطبيعية، أي الوحدة مع سوريا والعراق والأردن وفلسطين، خطاب يتمحور حول العدالة الاجتماعية وتمكين المرأة والمستضعفين والمهمشين في مجتمعنا، خطاب يذكرنا بماضينا وينقد علميا حاضرنا ويعطينا الامل بمستقبلنا وخارطة طريق للوصول لمستقبل افضل. بكلمة: الاعلام القومي الاجتماعي يضع مصلحة المجتمع فوق كل مصلحة.
وكما رأينا من الدراسات الثلاثة التي عرضتها، يستطيع اعلامنا يكون وحدوي وان يخدم المجتمع، ولكن لفترة قصيرة وفي حالات ضغط عظيمة كحالات الحرب، والجائحة، والفورة الشعبية. السؤال هو، كيف يمكن تحقيق اعلام قومي دائم وليس مؤقت؟ الجواب واضح وسهل ويعود الى النظرية التي عرضتها في اول هذه المداخلة: الاعلام يعكس واقع المجتمع والنظام السياسي والطبقة السياسية الحاكمة في اي دولة. هذا يعني اننا بحاجة لنظام سياسي قومي اجتماعي والى تغيير اجتماعي جذري مبني على مبادئ القومية الاجتماعية التي تسوي بين افراد المجتمع وتحفّز على الانصهار والاندماج والوحدة والاخاء والتسامح القومي ونبذ الطائفية والانقسام والعنصرية والذكورية وامراض المجتمع الاخرى.
بمعنى آخر، إن تغيير الخطاب السياسي سيكون مؤقت ولن يغيّر بالوضع الأساسي للمجتمع والشعب والدولة. هو مجرد تغير ثياب وشوية مايك آب لفترة وجيزة. بآخر النهار عندما نعود للبيت ونخلع الملابس ونزيل المايك آب، تبقى حقيقة قبح جسدنا الاجتماعي والسياسي معكوسة في المرآة تحدّق بنا وتذكرنا بوضعنا المذري. تغيير الثياب سهل. تصحيح عورات الجسد صعبة وتحتاج الى الوقت والصبر والعزيمة والشجاعة—وربما اشتراك في الجيم. وبالتأكيد تصحيح الجسد اسهل بمئات المرات من تصحيح ونهضة الفكر الاخلاق والمناقب—وهذا على الصعيد الفردي، فلنتخيل صعوبة تحقيق هذه النهضة على صعيد المجتمع وفي ظل المصائب الدائمة. ولكن لا بد لنا من التخيّل والحلم والايمان والعمل لنهضة قومية اجتماعية وثورة إعلامية قومية اجتماعية.

مداخلة عميد التربية والشباب في الحزب السوري القومي الاجتماعي الرفيق جاد ملكي في المؤتمر الإعلامي الأول لحركة أمل (وعنوانه “دور وسائل الاعلام اللبنانية في بناء الخطاب السياسي الإيجابي”) في فندق الريفيرا يوم الاثنين 3 تموز 2023.